قبل عدة سنوات عنَّ لأحد الدراويش الأتراك المقيمين في ألمانيا أن يعلن نفسه خليفة للمسلمين، ووجد من بين معارفه من بايعه وسار وراءه مؤيدا. لم تكترث السلطات الألمانية بالإعلان، ولم تأخذه على محمل الجد، وتركت الرجل وجماعته وشأنهم. إلا أن الفكرة راقت لدرويش آخر من الأتراك الذين نزحوا إلى ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية وشاركوا في إعادة إعمارها، فاكتسب الرجل الجنسية الألمانية، وبعد تقاعده أطلق لحيته ولزم المسجد وتحول إلى واعظ وداعية. صاحبنا هذا أعلن نفسه خليفة للمسلمين بدوره، وقتذاك زاره أحد أنصار الخليفة الأول لكي يتأكد من صحة الخبر، وحين قابله نصحه بمبايعة الرجل الذي سبق بإعلان نفسه خليفة. وذكّره بأن بين فقهاء المسلمين من أفتى بأنه إذا كان للمسلمين خليفة بايعه الناس. ثم ظهر آخر نازعه على منصبه فإنه يجوز قتل الأخير حتى لا يؤدي ذلك إلى إحداث فتنة بين المسلمين. قال الراوي إن الخليفة الثاني بعدما سمع هذا الكلام اختفى ولم يظهر له أثر. الشق الذي يهمنا في القصة التي سمعتها أثناء زيارة لمدينة فرانكفورت يتمثل في موقف السلطات الألمانية التي لم تكترث بما ادعاه لنفسها لخليفة الأول أو الثاني، حيث اعتبرت أمثال تلك الدعاوى من قبيل الفرقعات أو التصرفات غير المألوفة التي تصدر عن المواطنين في أي مجتمع مفتوح، لهم أن يعبروا عن أنفسهم كما يشاءون طالما أن ذلك في حدود القانون. وللعلم فإن الموضوع نسي بمضي الوقت ولم يعد أحد يذكر أيا من الخليفتين. هذه القصة مرت عليها عدة سنوات، لكنني أستعيدها كلما وقعت على الأصداء القلقة والمفرطة في الخوف أحيانا التي تتناقلها وسائل الإعلام جراء الإشارات التي تصدر عن البعض إلى موضوع الخلافة الإسلامية، وهي التي ترددت بصورة أو أخرى في أجواء الانتعاش الذي أحدثه الربيع العربي، فحين تحدث رئيس وزراء تونس عن أن الثورة تهيئ فرصة مواتية لتمثل الخلافة السادسة (خلافة عمر بن عبدالعزيز التي ساد فيها العدل والأمن) قامت الدنيا ولم تقعد بين بعض شرائح المثقفين في تونس، واعتبروا ذلك تمهيدا لإعلان دولة دينية بديلا عن الدولة الديمقراطية. وحين قال أحد الدعاة في مصر إن الثورة تعد بداية لإقامة دولة الخلافة التي ستكون عاصمتها القدس، صاح نفر من المثقفين محتجين وغاضبين، ووجدت أن بعض الباحثين اعتبروا هذا الكلام مرجعا استشهدوا به في التعبير عن تشاؤمهم وعدم اطمئنانهم للمستقبل. حدث مثل ذلك أيضا حين ردد بعض أعضاء حزب التحرير كلاما مماثلا في منشورات وزعت أثناء مظاهرات ميدان التحرير، وهو الكلام الذي يلوكه المنتسبون إلى الحزب منذ نحو ستين عاما ولم يأخذه أحد على محمل الجد حتى الآن. وقد استغربت حين وجدت بعض الأكاديميين يتكلمون بشكل جاد عن مخططات إقامة الخلافة، وتضاعف استغرابي حين ردد أحد وزراء الخارجية الخليجيين هذا الكلام، وكأن التحضير لإعلان الخلافة على وشك الصدور. وقد قرأت لأحد الكتاب تحليلا نشرته إحدى الصحف العربية اللندنية للأزمة الحاصلة بين إحدى دول الخليج والإخوان، وقد أرجعها إلى عدة أسباب كان بينها عزمهم على إعلان الخلافة، التي ستكون دول الخليج من بين «ولاياتها». المدهش في الأمر أن ذلك يحدث ويصدق البعض أن هناك ترتيبا لتوحيد الأمة تحت راية الخلافة العظمى في حين أن هؤلاء يرون أننا بالكاد نحافظ على وحدة كل قطر، على حدة، وقلقنا شديد على انفجار وتقسيم أكثر من قطر عربي. كما أننا عجزنا حتى عن التنسيق بين الأقاليم العربية. وهو واقع يتم تجاهله تماما. ليس ذلك فحسب، وإنما فضلا عن تجاهل هؤلاء خرائط الواقع السياسي والاجتماعي، فإنهم يتجاهلون أيضا موازين القوة في العالم ومصالح القوى الكبرى التي تتصادم مع أحلام المتحدثين عن دولة الخلافة. إن أي باحث مبتدئ يعرف أن الإسلام لم يقرر شكلا لنظام الدولة، ولكنه فقط نص على قيمة الشورى التى ينبغي أن يقدم عليها النظام، والعدل الذي ينبغى أن يستهدفه. وكل ما عدا ذلك يعد من قبيل الاجتهادات والخبرات التي لا تلزم، والعدل الذي ينبغى أن يستهدفه. وكل ما عدا ذلك يعد من قبيل الاجتهادات والخبرات التي لا تلزم، ولكن يؤخذ منها ويرد. بالتالي فإن الباحث المبتدئ يعرف أن الخلافة الراشدة تجربة غنية وعظيمة في الخبرة الإسلامية، لكنها تحولت إلى ملك عضود بعد ذلك لا يقيم العدل ولا يصح للاحتذاء. لقد تمنيت أن نتعامل مع موضوع الخلافة كما تعاملت معها السلطات الألمانية، ولكن خطاب التخويف يصر على استخدامها كفزاعة لتصفية حسابات علاقاتها بالكيد أوثق من علاقاتها بالمعرفة أو بالحقيقة. هذا الكلام قلته لصحفية أمريكية سألتني في الموضوع. واستغربت حين ذكرت لها أننا نعيش الآن في ظل خلافة عظمى أخرى يقودها الرئيس الأمريكي الذي يبسط نفوذه على العالم الإسلامي، فيعين الولاة ويؤدب العصاة ويستقبل الخراج كل عام. ويوزع الرضى والسخط على أقاليمه. وقلت إن تلك هي الخلافة الحقيقية المقامة على الأرض الآن. وكل ما عداها أضغاث أحلام وفرقعات في الهواء. ومزايدات لبعض المراهقين في عالم السياسة.