أصدرت المحكمة الإدارية العليا في مصر حكما يقضي بأن حكم الدستورية العليا بشأن حل مجلس الشعب حكم ملزم للتنفيذ ونهائي، وبهذا وضعت حداً لحالة الخفة العقلية التي أصابت قانونيين وسياسيين تفسر وتشرح على هواها حكم المحكمة الدستورية، ووضعت حدا أيضا لحملة شنها نواب من جماعة الإخوان توحي بأن عودة مجلس الشعب أمر في حكم المنتهي وعلى الأقل عودة ثلثي المجلس. أصدرت المحكمة حكمها على مرحلتين؛ الأولى صباح السبت 22 أغسطس وقضت بتأجيل الحكم في الدعوى المنظورة أمامها إلى منتصف أكتوبر، وأنهت حالة التوتر والتربص من المحامين المنتمين لجماعة الإخوان ومن جرى حشدهم بالمحكمة، وعادت للانعقاد الساعة الخامسة بعد الظهر لنظر دعوى أخرى في ذات الموضوع ولتعلن حكمها هذا، وكأن هيئة المحكمة أدارت معركة سياسية قضائية، لتتجنب حالة الانفلات الإخواني في مواجهة القضاء كما هو في كل الاتجاهات. حالة "الخفة العقلية" والاستقواء بقاعدة "الحكم لمن غلب" سائدة الآن في مصر، وإذا كانت قضية حل مجلس الشعب وجدت السبيل لمواجهتها من القضاء وساعد تعدد الدعاوى في نفس الموضوع على ذلك، غير أن هذا غير متوفر في باقي المواجهات الجارية الآن في مصر. الارتجال هو السمة السائدة في الأداء السياسي في مصر، ومحاولة إلباس الارتجال عباءة الدين هو خطأ وخطر، ولم يعد الأمر مجرد خطف الثورة، ولكن تم الانتقال بأطوار المرحلة الانتقالية وانتخاب رئيس للجمهورية هو إجراء ضمن المرحلة الانتقالية التي تستهدف وضع الدستور الجديد إلى محاولة خطف الدولة والنظام الواجب بناؤه بعد الثورة. جدول أعمال التغيير في مصر من القضاء على بيئة الفساد إلى امتلاك مفهوم واضح للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والعدل الاجتماعي، ومواجهة الخطر الخارجي المتمثل في إسرائيل، وخططها بالنسبة لسيناء والحصار الجغرافي والسياسي لمصر، تستلزم رؤية وأهدافا محددة وخطة إستراتيجية ممن يتصدى للعمل سواء في منصب الرئيس أو الحكومة أو المجالس النيابية، ومجرد الركون إلى إطلاق الشعارات أو التناحر سيدفع إلى انفجار في المجتمع أكثر خطورة من نظام الفساد. ليس كافيا أن نخرج من حكم الاستبداد إلى حكم الدراويش، وليس كافيا التسامح والقول بأن من يعتلي كرسي السلطة يملك الحق المطلق بذاته كي يستعين بمن شاء، وليس من الكفر أن نسأل ماذا تعنون بأن هناك مشروعا للإسلام السياسي، فقد كشفت الوقائع والأحداث أن مشروعهم يؤدي إلى الفتنة الطائفية والسياسية والوصول إلى السلطة والتشريع باستغلال حاجات المواطنين، وأن لكل صوت ثمنا، وأن الرشاوى السياسية والانتخابية هي سبيلهم للسيطرة والتمكين. نعم مصر تحتاج إلى حوار بين كافة الأطراف، وجهد كل الأطراف، ولكن السؤال الجوهري هل كل الأطراف دون استثناء مهيأة لهذا الحوار؟ وهل يملك أي منهم قدرة التعامل مع الآخر؟ أم أن الكافة يتحدثون عن مصر الوطن والشعب والمستقبل والدور دون امتلاك لرؤية ومشروع حضاري، وأن كلا منهم يرى أن الحل "هو" شخصه بذاته؟ وأن الكل لا يرى التاريخ كي يتعلم منه، بقدر ما يرى إمكانية الاستنساخ دون امتلاك أدواته ودون استيعاب حقائق العصر والإمكانات الوطنية ودلالة الاستقلال الوطني ومهامه في عصرنا الحالي. العبث والخفة العقلية تشمل المواقف الجزئية والكلية معا، وصارت القضايا كقطع الفسيفساء المتنافرة والتي لا تصنع لوحة، بقدر صلاحيتها للتراشق وصناعة المواقف المتصارعة. محاولة مريبة لإعادة قانون الطوارئ، ويبلغ الأمر بوزير العدل، وهو من قضاة الاستقلال!، أن يقول بأن قانون الطوارئ وارد في القرآن الكريم، قد يعني الرجل معنى غير الذي وصل للناس، ولكنه قالها، وكأن كل مطالبة بإلغاء قانون الطوارئ هي تناقض مع القرآن الكريم!! وذات الوزير كان من أوائل من هاجموا حكم المحكمة الدستورية بحل مجلس الشعب، وهو أيضا يحمل في جعبته رؤية لإلغاء المحكمة الدستورية من هيكل القضاء، أمور بلغ فيها العبث مبلغه، كونها تتم دون رؤية كاملة للدستور والاستخفاف بالقضايا والمؤسسات غير عابئين بما يترتب على تلك المواقف. وفي ذات الوقت تجرى محاولات لإصدار تشريع يجرِّم المظاهرات والإضرابات والاعتصام تحت عنوان تنظيمها، وهي تكرار لمحاولات سابقة لنواب من الإخوان، والآن تتكفل عناصر من الإخوان باستخدام الحجارة لفض الوقفات الفئوية كما حدث منهم في مواجهة موظفي الجامعات أمام الجامعات، وبدأت الداخلية في التعامل الأمني لفض الاعتصامات العمالية وتحويل العمال إلى النيابة العامة بادعاء أنهم يخربون منشآت عامة ويحولون دون استمرار العمل، وكأن الشعب استبدل داخلية الرئيس المنتخب بداخلية الرئيس المخلوع، وبدون محاولة لاستيعاب الأسباب والتعامل معها، بل الحل أمني وهو المنع والتجريم، وهذا لن يلغي قضايا المواطنين الاجتماعية والاقتصادية، بل هو مرشح لانفجار الغضب. الارتجال وغياب الرؤية والاكتفاء بأحاديث الدراويش يكاد يصيب الأمن القومي بصدع خطير. ارتهن النظام السابق سيناء بيد معاهدة كامب ديفيد والترتيبات والإجراءات المتبادلة فوق الأرض التي جعلت سيناء قضية إسرائيلية يناقشها الكنيست الإسرائيلي أكثر منها قطعة مقدسة من كبد الوطن وليست زائدة دودية يمكن الاستغناء عنها، وفتحت سيناء لدخول الإسرائيليين دون حاكم أو ضابط، وصارت الأرض محل البيع والشراء، وعند البيع والشراء فالمال الصهيوني حاضر، وهو أقل كلفة من الحرب، وزرع النظام السابق فتنة بين المواطنين المصريين أهل سيناء وبين الدولة، وتجاهل إعمار الأرض، بل وتجاوز الأمر إلى اتهامات بالخيانة. ولم يعالج نظام الارتجال الذي أعقب الثورة هذه الحالة، بل لم يتركها دون أن يزيد من حدتها، ودخل إلى مخاطرة كثعبان أسطوري مزدوج الرأس، فقد تولدت بؤر لجماعات دينية مسلحة، استقطبت من الداخل ومن الخارج عناصر يطلقون عليها الجهادية، ليعلنوا أن سيناء إمارة إسلامية، وتمثل الرأس الثاني للثعبان الأسطوري قي التعامل مع قضية حصار غزة بغير رشد واجب، وصارت حكومة حماس وكأنها ومكتب الإرشاد أصحاب القرار في شأن المعبر، واختزلت القضية الفلسطينية بكل تفاصيلها وآلامها في مجرد فتح معبر رفح بل وبلغ الأمر بالمرشد أن يطلب عدم إغلاق الأنفاق؟!، دون مسوغ حتى قانوني له للحديث في السياسة، فهو رئيس جمعية تابعة للشؤون الاجتماعية ولم توفق أوضاعها بعد، وطبقا للقانون ما كان لها أن ترشح أو تنتخب أو تدعو أو تتحدث عن حزب الحرية والعدالة بأنه الجناح السياسي لها، وهذا ما أورثه لنا ارتجال المجلس العسكري السابق. رأسا الأفعى هما خطر داهم على الأمن القومي المصري في مواجهة عدو يرى أن أرض سيناء ضمن مشروع تبادل الأراضي وبديل للفلسطينيين في غزة عن الأراضي التي جرى احتلالها بعد 1967 ويجرى بناء المستوطنات فوقها. والحديث عن جهاد إسلامي ينطلق من سيناء في مواجهة الكيان الصهيوني فوق أرض فلسطين، هو حديث حق يراد به باطل، فهو البوابة الذهبية لصدام قادم حتما بين مصر وإسرائيل، وهذه التصرفات تضع الجيش المصري بين شقي رحى وتزج بمصر إلى صدام في غير توقيته، ودون الاستعداد له، والخطط الإسرائيلية جاهزة، وآلة الإعلام الصهيوني تجهز العالم بأن سيناء خارج السيطرة ومصدر للإرهاب وهناك حاجة لوقفه!، بينما التغني بالجهاد يشبه فحيح الأفاعي. إسرائيل تحركت في جنوب مصر ونجحت في فصل جنوب السودان وهي تعمل بكل قوة في دارفور، ويمتد أداؤها إلى منابع النيل. وإسرائيل موجودة في العراق وفي الشمال الكردي، وهي موجودة في الجنوب اللبناني وسوريا، بل إن إسرائيل موجودة في مياه بحر العرب والخليج العربي، وتكاد تحكم سيطرتها على مضيق باب المندب والذي كان مضيقا عربيا في حرب 1973، وهي تتحرك في اتجاه الوجود في ليبيا، بينما أدى الارتجال بمصر أن تصبح سيناء أرض اقتتال بين الجيش المصري وعناصر الإمارة الإسلامية. الخفة العقلية والسياسية والدينية أودت بالحوار الداخلي إلى مقدمات الحرب الأهلية، رغم أن طبيعة الشعب المصري تحول دون تفاقمها، فكيف بالارتجال أن يواجه الحقائق فوق أرض سيناء. إن كانت الخفة العقلية ألمت بالمواقف من حكم المحكمة الدستورية وقانون الطوارئ والتظاهرات والإضرابات وبلغت حد محو جداريات الجرافيتي التي كانت تسجل قصة الثورة والشهداء، وعجزت عن حل مشكلة إدارية بين جامعة النيل وجامعة زويل حتى صار البحث العلمي محل صراع يحسمه الأمن المركزي، فإن حالة الارتجال والعناد والاستكبار أصابت الجمعية التأسيسية لوضع الدستور، وصار كالحمل خارج رحم الأمة، إيذانا بمولود مبتسر بعيدا عن إرادة المجتمع وقواه الاجتماعية. إن الرؤية التي تحتاجها مصر للتنمية والعدالة الاجتماعية تنبع من داخلها، ولا يجري البحث عنها عبر مواقف جزئية في خارجها. إن خطوة واحدة في الاتجاه الخاطئ داخليا، تفتح أمام الخطر الخارجي أميالا معبدة دون جهد منه لتحقيق أهدافه، وتزيد من حالة الانقسام الداخلي إلى حد الصدام وليس التنوع والحوار. إن استمرار الحديث عن صراع بين إسلاميين وغير إسلاميين هو نوع من خداع النفس، إن ما نواجهه هو حالة من العجز عن رؤية العصر ومواجهة تحدياته، وهو إجهاض للإرادة الوطنية التي صنعت الثورة وتجاوزت كل الأيديولوجيات. خطر الارتجال والاستخفاف بالعقول والعناد مع الحقائق يعجل بمواجهة عسكرية مع العدو الإسرائيلي، وفي حده الأدنى تسليم لإرادة خارجية لا يعنيها وحدة الوطن. الجمعية التأسيسية للدستور لكل المصريين، ودستور مصر ليس مجرد صياغات، بل هو إرادة شعب، ولا يجب القبول بالاستفتاء عليه بقاعدة الزيت والدقيق والبطاطس. والقضية الفلسطينية ليست قضية حكم ذاتي تحت الاحتلال، وتقسيم فلسطين إلى شمالية وجنوبية بين فتح وحماس، ولكنها قضية الوجود العربي، قضية شعب وليست قضية معبر. والمواجهة مع إسرائيل ليست رعونة، هجمة هنا وهجمة هناك، بادعاء أداء واجب حرب العدو المقدسة، لتهدر إرادة وطن وأمنه وواجب حماية الأرض والشعب والمصالح. الاقتتال فوق أرض سيناء يؤكد من جديد ضرورة بناء جيش وطني قوي، مؤهل للدفاع عن الأرض والشعب وحماية الدستور، ويفرض استعادة السيادة فوق أرض سيناء المقدسة. نقلا عن صحيفة الشرق القطرىة