فى أغسطس 1950 وقف كل أبناء دمياط على الكوبرى المعدنى القديم.. وعلى الشاطئ الشرقى لنهر النيل يستقبلون ويهتفون لأشهر وزيرين فى حكومة الوفد «الأخيرة».. حتى لم يبق داخل المدينةدمياطى واحد لم يذهب إلى شط النيل ليشاهدوا أقدم وزير وفدى هو عثمان باشا محرم أشهر وزير للأشغال العمومية منذ عام 1924.. وأشهر وزير وفدى هو فؤاد سراج الدين وزير الداخلية.. وكنت أحد هؤلاء الواقفين، وكنت وقتها طالبا بمدرسة دمياط الثانوية. وكان الناس - كلهم - يتسابقون ليحفظوا أسماء الوزراء ومناصبهم الوزارية بل كنا نتسابق لنعرف أسماء نواب البرلمان.. فهذا هو «عضو النواب المحترم.. فلان الفلانى.. وهذا هو عضو الشيوخ المحترم.. وهكذا.. بل كان هناك من يدفع نصف ثروته ليحمل لقب معالى الوزير.. أو لقب النائب المحترم. وهذا هو صاحب المعالى فلان باشا وزير كذا.. أما الوزير ممن لم يحصلوا بعد على «الباشوية» فكان لقبهم الرسمى معالى فلان الفلانى.. أما الذين حصلوا على منصب الوزير دون أن يحصلوا على الباشوية أو البكوية.. فكان يحمل صفة «سعادة فلان الفلانى» ومن أشهر هؤلاء قبل أن يحصلوا على هذه الرتبة أو تلك هو صبرى أفندى أبوعلم الذى كان وزيرًا للعدل أو محمود فهمى أفندى النقراشى أو أحمد أفندى ماهر وهكذا.. ويا سلام لو فاز أحدنا بواحد من كروت تحمل اسم وزير.. أو حتى وكيل وزارة. ودار الزمن دورته.. وبعد أن كنا نحفظ ونعرف أسماء الوزراء.. لم نعد نعرف أحدًا من هؤلاء، فى العصر الحالى.. وأتحدى من يعد أمامنا - الآن - اسم خمسة من الوزراء الحاليين. ونفس الحكاية مع السادة المحافظين.. فالمحافظ - أو المدير زمان للمديرية - كانت له شنة ورنة.. بل منا من كان يسخر لاصرار بعض هؤلاء على أن يكون اسمه هكذا: معالى الوزير الدكتور المحافظ.. أو معالى الوزير المهندس المحافظ.. لأن المحافظ - رسميا - كان هو ممثل رئيس الجمهورية فى المحافظة وهو الحاكم الفعلى لها.. وكان الواحد منهم لا يسير فى شوارع المحافظة إلا فى موكب رسمى أو تشريفة كما كان يطلق عليها حتى وقت قريب.. وتسبق الموتوسيكلات هذا الموكب لتفسح له الطريق سواء وهو ذاهب ليصلى فى المسجد.. أو ليقوم بجولة تفتيشية مفاجئة بل وأتذكر موكب الشيخ الخضرى شيخ معهد دمياط الدينى وهو يتحرك بحنطوره الشهير فى شوارع المدينة بينما يجلس الحاجب بجوار قائد الحنطور وكل منهما يرتدى زيه الرسمى والجماهير توسع له الطريق.. وكان ذلك حتى أوائل الخمسينات بقليل.. الآن تغيرت الصورة تمامًا. وأتذكر شخصيا وكنت قد التحقت تلميذًا بمدرسة دمياط الابتدائية الأميرية، قادما لها من مدرسة جامع البحر الأولية أن رفعت يدى أريد الذهاب لدورة المياه وأنا أقول بصوتى المهتز «أفندى.. أفندى».. فإذا بمدرس الحصة ومازلت أتذكر اسمه أنور إبراهيم داود وكان مدرسًا للحساب، كيف هوى بكفه السمين على خدى وكان من أبطال الملاكمة وهو يقول بصوته الجهورى: أنا بك يا ولد.. حتى المدرس الابتدائى، كان بك!! وسبحان مغير الأحوال. وفى المدرسة الثانوية اضطررت إلى دخول دورة المياه المخصصة للأساتذة المدرسين ولما ضبطنى أحد المدرسين ضربنى.. وسحبنى إلى حجرة البك الناظر وكان اسمه محمد أحمد عزام «بك» وكان نصيبى 10 ضربات بخرزانة على يدى. الآن كل شىء تغير.. فمن يتذكر الأن أسماء خمسة من الوزراء.. أو خمسة من النواب.. ربما يتذكر البعض أسماء نجوم الإخوان المسلمين الذين احتلوا شاشات التليفزيون يخرجون من قناة ليدخلوا أخرى ولكن لا أحد يحفظ أسماء غيرهم.. فقد أصبح الوزير مجرد مسئول فى طابور المسئولين وكذلك الوضع مع المحافظين وغيرهم من كبار المسئولين.. بل هناك - من هؤلاء وهؤلاء - من يسمع «شتيمته بأذنيه» ولا يستطيع أن يرد.. وتابعوا مظاهرات المحتجين وصفوف المتجمهرين أمام مبانى الوزارات والمحافظات.. فقد انهارت جدران الحماية التى كانت تحمى المسئولين.. حتى طالت الهتافات كل المسئولين، حتى رئيس الجمهورية وقبله رئيس وأعضاء المجلس الأعلى الذى كان يحكم البلاد. لقد تغير كل شىء مع بداية ثورة يناير.. وإذا كانت ثورة يوليو 1952 قد ألغت الألقاب: بك وباشا فإن هذه الألقاب عادت قبل ثورة يناير وعاد الناس يخاطبون حتى ملازم الشرطة بالباشا والميكانيكى يطلقون عليه: الباشمهندس.. ولكن جاءت ثورة يناير لتغير كل ذلك. وانتهى عصر الباشوات الحقيقيين.. كما انتهى عصر عظمة الوزراء والمحافظين.. وأصبح الكل سواء.. ولكن هل أصبحوا كذلك.. أم هذه هى القشور التى تنتشر فى زمن الثورات.