في زمن الاشتراكية على الطريقة الناصرية، مروراً بزمن الرأسمالية الانفتاحية وفق النهج الساداتي والمباركي من بعده، ووصولاً إلى زمن الإسلام السياسي وحكم الإخوان، عبر كل هذه الأزمنة (60 سنة) كانت لدينا مدارس في الإبداع الكوميدي الساخر في المجالات الأدبية والسينمائية والتليفزيونية التي تتناول أداء البيروقراطية المصرية بالنقد المؤثر والفاضح لمدارس الكذب والرياء والانتهازية وغياب الشفافية وانتشار آفة النفاق الحكومي، ولكن يظل الكاتب الساخر أحمد رجب هو صاحب القلم الأكثر فهما وتأثيراً وقرباً مما حدث ويحدث في دواويننا الحكومية، والأكثر وصولاً للمتلقي عبر كتاباته الصحفية شديدة الإيجاز والتحديد لقلب المشكلة والإمساك بتلابيب تركيبة الموظف المصري، ولعل أشهرها مربعه السحري «نصف كلمة«، ومن خلال تراث هائل من صياغة النكات التي شاركه فيها بالرسم العملاق مصطفى حسين، وكذلك من خلال حواديته القصيرة التى ضمنها كتبه الشهيرة، وقام بتحويل عدد كبير منها إلى أفلام تليفزيونية أستاذ الدراما الكاريكاتورية السيناريست عاطف بشاي، وكونا معاً ثنائيا بديعا نتمنى أن يعودا لنا بعمل جديد ونحن نعيش أكثر الأيام عبثية وتوهاناً أراها مُحفزاً لتفجير أروع ألوان الإبداع التراجيكوميدية الكاريكاتورية، ولكن يبقى الفيلم التليفزيوني» الوزير جاي (عام 1986 ) هو العمل الأبرز، والذي تناول بجرأة حالة الفساد الإدارى فى المصالح الحكومية، عبر التوقف عند طقس حكومي خالد متكرر فور الإعلان عن قدوم مسئول كبير لأي مصلحة، ومن خلال تتابع مشاهد العمل تتدفق الأحداث الواقعية والافتراضية بخفة ظل من خلال تزييف الشكل الحقيقي والواقعي لتلك المؤسسة المعني بها الفيلم في إحدى المصالح، فيتم استدعاء مجموعة من الكومبارس بدلاء للموظفين ليقوموا بعمل مشاهد مُتفق عليها أثناء زيارة الوزير للمصلحة بمبالغات كاريكاتورية تعكس حالة عبثية لمنظومة إدارية فاشلة وفاسدة.. ولكن بعد ثورة يناير يبدو أن أحباب المسئول قد قرروا أن يصنعوا له المشاهد الواقعية الاستباقية لمنافقته، وبتنا نطالع الأخبار الرومانسية الناعمة عن المسئول.. نطالع الخبر التالي يوم 17/ 4 / 2011 ونصه «منذ توليه رئاسة الوزراء.. حظي الدكتور عصام شرف باحترام الجميع، بسبب مواقفه المتتالية التي تُظهر معدنه الأصيل، طيب أخلاقه، وبساطته التي لم نعهدها في الكثير ممن تولوا منصب رئاسة الوزراء في مصر.فقد انتابت حالة من الدهشة والفرح رواد مطعم التابعي الشعبي بالمهندسين، عندما فوجئوا بدخول الدكتور عصام شرف رئيس الوزراء وأسرته لتناول وجبة «فول وطعمية» ساخنة بعد عودة الحياة إلى طبيعتها مرة أخرى، وحرص رواد المطعم خاصة من الشباب على التقاط الصور التذكارية معه، وتبادلوا الأحاديث الودية معربين له عن تمنياتهم بالتوفيق والنجاح في مهمته الشاقة التي تولاها خاصة خلال هذه المرحلة المهمة التي تمر بها مصر حالياً.. موقف آخر يفيض بالإنسانية والبساطة والتواضع خلال لقاء الدكتور عصام شرف مع مجموعة من الفلاحين الذين يمتلكون أراضى فى منطقة بدر للحوار معهم حول المشاكل التى تواجههم و طرق حلها...».. ملحوظة أذكرها بالمناسبة الدكتور شرف تم اختياره من ميدان التحرير مرفوعاً على الأعناق رغم أنه كان الوزير الذي لم يحقق أي إنجازات في عهد مبارك، ثم تم خلعه نزولاً على رغبة الميدان بعد أن تم إهانة هيبة الدولة عبر العديد من حوادث قطع الطرق لأول مرة وعلى نحو مستفز متكرر، وهو الذي حدث في عهده النكتة الأبرز « تجميد محافظ «لكونه قبطياً رفضه أهل التشدد في المحافظة وقال أحدهم « كيف نقبل بمحافظ لن نراه يصلي معنا الجمعة»، رغم أن تلك المحافظة مر بها أكثر من محافظ لم يراه الناس أصلاً، وأظننا وحتى الآن لم نسمع بقرار فك تجميد المحافظ رمز الدولة!!.. وياخسارة لم يكن للطعمية فائدة أو جدوى في تثبيت أركان حكم شرف الرجل السمح. وقبل الاحتفال بعيد الفطر المبارك طالعنا الخبر العائلي بطعم الكعك..» عقب اداء الدكتور هشام قنديل رئيس الوزراء صلاة الجمعة الأخيرة فى رمضان بأحد المساجد القريبة من سكنه تجول فى المنطقة لشراء لعب لأولاده وكعك العيد،اقترب قنديل من الناس وناقش معهم همومهم اليومية واستمع إلى المطالب والآمال ووعد بالعمل بكل الطاقة لتحقيق مطالبهم. وقد هنأ قنديل الشعب المصرى والمتجمعين حوله بعيد الفطر المبارك..».. في تكرار لحالة شرف، فالرجل لم يكن الوزير صاحب الإنجازات الدافعة للاختيار، وبعد أيام شهدت البلاد أزمة انقطاع الكهرباء والمياه بشكل استفزازي إلى حد تعرضه لموقف هجومي شهير من قبل الناس في الشارع، ولكن ربنا سترها.. فهل كان قنديل والكعك وسكره يُعد مشهداً جاء بمثابة معادل موضوعي مُرطب لإبراز حالة الصلح مع الرجل السمح بعد خناقة الناس معاه ؟! لاشك أن النفاق الإداري يذهب بأصحابه إلى دروب التدليس والكذب والتزييف وتغيير وجه الحقيقة، ولعل المثال المهم الذي أثر بشكل مروع في الاقتصاد العالمي قبل أكثر من 5 أعوام كان نتيجة قيام إدارة شركات أمريكية كبرى ك«أنرون للطاقة» و«ورلد كوم» للاتصالات، و»زيروكس» الأمريكية بتقديم بيانات كاذبة حول أرباح وهمية ساهمت في رفع أسعار أسهم هذه الشركات في الأسواق المالية بدون أساسات اقتصادية فعلية بهدف تضليل المتعاملين معها، ودفعهم إلى التهافت على شراء أسهم هذه الشركات بصورة كبيرة؛ وهو ما ساهم في رفع قيمتها بصورة جنونية، وبالتالي استفاد مديرو هذه الشركات نتيجة تضخيم مكافآتهم السنوية، في الوقت الذي لا يبالون فيه بالخسائر التي تلحق بحمَلة الأسهم من جراء إفلاس الشركات أو هبوط أسعار الأسهم في البورصة. وساعتها اعتبر خبراء أمريكيون أن «النفاق اعتلى مؤسسات الأعمال الأمريكية، فأفسدها وجعلها تنحرف عن أهدافها الاقتصادية ويجب تقويمها». لاشك أيضاً أن النفاق هو الثمن المدفوع لتمكين الفساد من الفضيلة؛ فالموظف المنافق لا يعنيه نشر مفاهيم المحسوبية والتزوير وغيرها من الرذائل المبنية على ممارسة النفاق داخل مؤسسته، ما دام الأمر لن يقترب من مصالحه.. ولعل خطورة النفاق الوظيفي على الأداء الإنتاجي للمؤسسات هو مادفع بعض المؤسسات في الدول الغربية إلى إنشاء برامج للمصارحة الإدارية، وإنشاء وحدة للتعامل النفسي مع الموظفين وتحسين أدائهم قيميًّا، فضلا عن ضبط بيئة العمل.