بعد أن أمضينا اليوم الاول للعيد كنا ننام ونحن نحلم بما سنفعله في اليوم التالي.. كان الصبية الكبار، بين العاشرة وسن 13 سنة، يفضلون عادة استئجار المراكب أو الفلايك الصغيرة.. بعضها بالمجاديف.. وبعضها بالأشرعة.. وكنا نجهزها لننطلق بها إلي رأس البر وكنا نحمل معنا طعامنا وصفائح مياه الشرب.. ونصيبنا من كحك العيد والغريبة والبسكوت، وكان الطعام من السردين المملح أو البوري الصغير أي السهيلة والجرانة والطوبارة.. والبصل الأحمر الطلياني الذي كان متوافراً وقتها. وتنطلق الفلايك قبل ان تشرق الشمس في اتجاه الشمال.. وكان علينا ان نسرع باستخدام المجاديف لنحرك الفلوكة.. إلي أن تهب نسمة ريح بسيطة تتلقفها الاشرعة المرفوعة لتساعد في رفع الفلوكة إلي رأس البر.. والمسافة 16 كيلومترا، وكنت تجد عشرات الفلايك، بل والمئات تتسابق، والكل يطبل ويرقص ويغني، ونصل إلي هدفنا بعد 3 أو أربع ساعات، أي مع الضحي لننزل إلي شاطئ رأس البر أمام عزبة البرج أو الشيخ درغام، وهات ياعوم ولعب وكر وفر.. إلي أن «ينهد حيلنا» عندما ينتصف النهار ويجيء وقت الغداء.. وكنا «نمسح» كل ما معنا من طعام مالح.. نتبعه بما معنا من كحك مسكر، وحبات من «الفطرة» أي الجوز واللوز والبندق والخروب والزبيب..!! أما مشوار العودة فكان يبدأ بعد العصر، وكنا نحمل هم هذه العودة.. خصوصاً إذا لم تتحرك الرياح.. أو الجو «ينسم» حتي يتمكن الشراع من التقاط هذا الهواء القليل ليسحب الفلوكة.. عائدين.. ويا ليلة سوداء ليلة إذا لم ينسم الجو، كان علينا أن نستمر في استخدام المجاديف أحياناً.. أو ينزل بعضنا من الفلوكة إلي البر لنسحب الفلوكة بالحبال.. ونحن منهكون تماماً.. وغالباً ما كنا نذوق عذاب رحلة العودة.. ودائماً ما كنا نعود إلي بيوتنا في دمياط قبل أن ينتصف الليل وكان اصحاب الفلايك ينتظروننا علي طول الشاطئ وطبعاً كانت «العلقة السخنة» في انتظارنا.. أما الصبية الصغار - دون العاشرة - فكنا نحمل طعامنا وننطلق شرقاً إلي قرية سيدي شطا علي حافة بحيرة المنزلة.. بعد ان نعبر قرية غيط النصاري التي كنا نقطع منها عيدان نوع ممتاز من الغاب أو البوص كنا نستخدمها كأقلام «بسط» للكتابة.. وسيدي شطا كان ابنا لحاكم دمياط الروماني أيام فتح عمرو بن العاص لمصر.. وساعد المسلمين ودلهم علي النقاط الضعيفة في اسوار دمياط ذات ال 11 باباً وتم للمسلمين فتح دمياط واستشهد في المعارك «شطا ابن الهاموك» هذا وتم دفنه حيث استشهد وأقيم علي جثمانه قبر ومقام ومسجد ومازال يزار في شهر شعبان. المهم ما إن نصل إلي سيدي شطا حتي نخلع ملابسنا وننزل إلي مياه بحيرة المنزلة نسبح ونلعب.. وكانت مياهها لم يصبها التلوث الحالي بعد أن اخذنا نلقي فيها مخلفات الصرف الزراعي، والصناعي، والصحي، وتبدأ مباريات كرة القدم، أو الكرة الشراب إلي أن يؤذن المؤذن لصلاة الظهر فنخرج من البحيرة ونتناول طعامنا في ظلال المسجد المدفون تحته الشهيد: سيدي شطا.. ونعود إلي دمياط .. بعد العصر فنصل إليها علي.. المغرب!! نعود إلي دمياط لنجد المدينة هادئة وشوارعها شبه خالية.. فقد تعب الكبار وتعب الصغار.. ودخلوا بيوتهم يلتمسون الراحة بعد شهر ليلة العيد.. الطويل الصاخب، وكنا نطلق علي ليلة اليوم الثالث، أي بين الثاني والثالث: «ليلة الهمدة» فالكل نائم مهدود ولا نجد «صريخ ابن يومين» في اي شارع.. وكانت كل المحال تغلق أبوابها.. حتي الافران التي تكون قد فرغت في تسوية الكحك.. وحان وقت العيد.. أما اليوم الثالث فكان يوم المسحراتية.. كان كل مسحراتي يطوف حواري المنطقة التي كان يطوف بها طوال ليالي رمضان، وكان هناك من يجد خلفه إما حماراً.. أو حصاناً.. أو جملاً.. وقد قام بتزيينه وتجميله وجعل لكل واحد هودجاً مثل هودج المحمل.. وكان المسحراتي هنا يجمع المكافآت والهبات التي يمنحها له رب كل اسرة.. مكافأة له علي دوره في تسحير الاسرة ودعوتها إلي تناول طعام السحور.. وكان عم سليمان هو مسحراتي الحي الشهير.. وقد كف بصره في آخر عمره ولهذا كانت تسحبه إحدي حفيداته، ولما كان الرجل يروي طوال رمضان جانبا من السيرة النبوية العطرة - ولا مسلسلات رمضان الحالية - كان عليه ان يختم لنا هذه السيرة بكلمات كلها شجن وحزن وألم لفراق الشهر الكريم وكراماته.. وكان عم سليمان يقف أمام كل باب ليلقي التحية لكل فرد من اسرة هذا البيت.. ولم يكن يخطئ أبداً في أي اسم.. ثم تخرج سيدة البيت، أو رب الاسرة «لينفح» أو يعطي المسحراتي نصيبه من المال.. وايضا كميات رهيبة من كحك العيد.. ولا ينسي أحد «الفطرة» أي «النقل».. والله العظيم مازالت كلمات عم سليمان الحزينة ترن في داخلي وهو يستودعنا شهر رمضان.. و«ست عايدة قاعدة علي مكنتها.. بتخيط في بدلتها.. بنت العزيز الغالي!!». ولا ننسي عربات الكارو وعليها تلال من «التمر الابريمي» نسبة إلي قرية ابريم النوبية مما تبقي من فطرة العيد.. وكانت تنطلق بين الحارات والازقة تبيع هذا التمر بربع ثمنه.. حتي لا يتلف.. وعربات الكارو هذه تبيع في موسم «الطير» تلالاً من «الغر» وهو نوع من الطيور المهاجرة أو تلالاً من العصافير حية ومذبوحة برخص التراب بعد العشاء، وقبل ان تتلف.. ايضا كان لمن يصوم الايام الستة البيضاء بعد يوم من شوال كان لهم عيدهم كنا نطلق عليه اسم: عيد الابرار.. اي الذين يتبعون صيام رمضان بصوم ستة ايام.. سنة عن النبي صلي الله عليه وسلم.. حقا كانت اياما عظيمة عاشتها طفولتنا ومازالت الذاكرة تحفظها وكأنها حدثت بالامس.. وكل عام وأمة المسلمين بخير..