تعددت مناحى الإعجاز فى القرآن الكريم.. ولأنه كلام الخالق فقد تجاوز الإعجاز حدود الكلام.. والصياغة.. والبلاغة.. إلى أسرار خلق الله.. وما ذكره الخالق الأعظم من أسرار مخلوقاته لم يكن معروفاً وقت التنزيل والوحى.. ولم يكتشفه علماء الأحياء إلا بعد تمام الرسالة بقرون.. وإن كنا قد قصرنا فى الإحاطة بأوجه الإعجاز كاملة.. فإن ذلك لا يعفينا من ذكر بعض الأمثلة. قال تعالى: (ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون) «سورة الأعراف: 176» ويصل العلم بعد أربعة عشر قرناً من الزمان من نزول القرآن، إلى أن الكلب ليست له غدد عرقية إلا القليل فى باطن أقدامه مما لا يكفى لخفض درجة حرارته، فإن عمل الغدد العرقية بما تفرزه من عرق إنما هو لتلطيف درجة حرارة مسطح الكائن والجو المحيط به.. ولذلك فإن الكلب يستعيض عن عدم وجود الغدد العرقية الموجودة فى غيره من الحيوانات، بمحاولة تخفيض حرارته عن طريق اللهث الذى يعرض فيه أكبر مساحة من فراغ الفم واللسان للهواء.. ودائماً ما يفعل الكلب ذلك سواء أكان مجهداً أم مسترخياً. ومن هنا يتجلى لنا مدى الدقة العلمية فى الآية الكريمة. قال سبحانه وتعالى: (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون) «سورة العنكبوت: 41» لاحظ أن الإعجاز العلمى فى هذه الآية يتجلى بأجل معانيه فى لفظة (اتخذت) بصيغة الفعل المؤنت.. وهى إشارة علمية فى غاية الدقة للدلالة على أن ما يقوم ببناء بيوت العناكب هى الأنثى منه، وأن الذكر من العناكب لا شأن له بذلك.. وهذه حقيقة ما كان أحد مطلقاً يفطن إليها وقت نزول القرآن.. ولكن لما اشتغل علماء الأحياء حديثاً بدراسة الحشرات، ووضعوا فى دراستها علماً قائماً بذاته، تبينت لهم حقائق مذهلة عن الحشرات التى تبلغ مئات الآلاف فى أنواعها.. وأن كل نوع منها يتميز بأشكاله وأحجامه، وألوانه وطبائعه وغرائزه المميزة له عما سواه. قال تعالى: (إن الله لا يستحيى أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً يضل به كثيراً ويهدى به كثيراً وما يضل به إلا الفاسقين» «سورة البقرة 26». يقول أحد العلماء المعاصرين: «امسك جناح الفراشة» ثم دعها لحال سبيلها، تجدها تطير، وهذا ينبئك بأن الجناح سليم، لكن نظرة فاحصة إلى سطح أصبعيك الذين أمسكت بهما الجناح، قد تكشف لك عن مسحوق خفيف دقيق لامع، هو بلا شك أثر من سطح الجناح الذى يتميز بالألوان الجذابة التى ليست دهانات، بل وحدات تراكبت فى وحدات، أو هى أشبه بصناعة الفسيفساء (الموزايكو)، وهذه الوحدات بمثابة بروزات مسطحة تبرز من خلايا الجناح الغشائى التى تحتها، أو هى أشبه بقشور الأسماك، أو بالظفر الممتد من الجلد، مع الفرق طبعاً بين تكوين وتكوين.. ثم إن لكل خلية بروزها الذى يظهر بوضوح على هيئة ألواح أو صفائح أو حراشيف دقيقة). ويذهب العلماء إلى أبعد من ذلك، فيقدرون بالأرقام والمقاييس كثافة هذه الوحدات فطول الواحدة يقع فى حدود عشرة ملليمترات وعرضها نصف ذلك، أى 0.05 ملليمتر.. وعلى مساحة ملليمتر مربع واحد من سطح الجناح يوجد ما بين 200 و600 حرشفة، ويتوقف ذلك على نوع الفراشة، ومساحة الحرشفة وتداخل بعضها مع بعض، كما تتداخل قشور يعنى ذلك أن هناك مئات الألوف أو الملايين من الأسماك على جلودها الحراشيف الملونة على السطوح العلوية والسفلية لأجنحة الفراشة، إن هذه الوحدات تتراص بنظام دقيق، فتعطى كل نوع من الفراشات نمطه المميز الذى يتوارثه الخلف عن السلف، بحيث يصبح هذا النظام بمثابة بصمات دقيقة على الجناح لدرجة أن العالم المتخصص يستطيع أن يتعرف على نوع الفراشة من نظام الزخرفة الموجودة على الجناح، دون أن يرى الفراشة. محمد بدر