حين وقف ابنها الشاب أحد أجمل زهرات عمرها وعائلها امام مقر البلدية فى مدينته «سيدي بوزيد» فى هذا اليوم، واشعل فى نفسه النيران احتجاجا على القهر والظلم وعلى مصادرة عربة الخضراوات التى «يسترزق» منها. وكان جسده شعلة انطلاقة الحرية فى تونس ومنها إلى بلدان ثورات الربيع العربى، لم يقف العالم طويلا امام العجوز «منوبية البوعزيزي»، ولا امام احزانها الهائلة التى لا يطفئها شعور الفخر بنجاح الثورة التونسية التى فجرها ولدها، ولا حتى نجاح ثورات العالم كله، فمهما تظاهرت بالشجاعة كأم للبطل، فقلبها الحزين لا تنضب جراحه، ودمعها المرير لا يتوقف كلما تذكرت لمحاته، ومواقفه وهو طفل يحبو وصبى غض وشاب مقبل على الحياة. منوبية بوعزيزى، نشأت وتربت فى افقر احياء تونس، كملايين من بنات بلدها تزوجت بعامل بسيط، تركها بعد اشهر من الزواج سعيا وراء الرزق ليعمل فى ليبيا، ولأن الاولاد «عزوة» ورزقهم على الله، انجبت منه 9 اولاد، بينهم «طارق» أو محمد كما كان يلقب، لكن محمد الصغير لم يمهله القدر للتمتع بحنان ابيه وعطائه، فقد مات الأب ومحمد لم يتجاوز السنة الثالثة من عمره، فكان له حب خاص فى قلب امه لنشأته اليتيمة، وحملت «منوبية» كل الحمل والهم على كتفيها، هم أرملة صغيرة فى رقبتها حفنة من الأطفال، ولم يكن امامها الا القبول بالزواج بعم اولادها، عسى ان تجد من يعولهم معها ويحميهم من تقلبات الحياة، لكن استقرار الأسرة الكبيرة البسيطة لم يدم طويلا،فقد سقط العم أيضًا مريضًا، واصبح لا يقوى على العمل، فعادت «منوبية» للمرة الثانية تواجه رياح الحياة بيد خالية وقلب جريح يحوى اولادها التسعة وزوجها المريض. وكانت ظروف حياتها القاسية مدعاة لأن تدفع اولادها للعمل المبكر لاعالة اخواتهم البنات وللوقوف بجانبها، وكان محمد سندها فى الحياة وعائلها، نشأته اليتيمة رغم وجود عمه علمته الكفاح والعمل فى سن مبكرة، وصبر محمد على ما فيه من أجل أمه واخوته تحولت كل احلامه الكبيرة فى الجامعة والوظيفة المحترمة إلى مجرد اقفاص من الخضراوات، كان قلب أمه «منوبية» يتمزق وهى تراه يبيع احلامه ليشترى لهم الأرغفة والطعام اليسير، وكان يخبرها بأنه قانع وان رضاها عليه ودعاءها له يفتح له أبواب الرزق. حتى يوم السابع عشر من نوفمبر 2010، قبض أحد رجال شرطة البلدية على عربة محمد، والقى ما عليها من خضراوات على الأرض وهو الذى لم يدفع ثمنها، ثم جر العربة نحو شاحنة حكومية توسل محمد لاستعادتها،وامره الرجل ان يستلمها من البلدية،وعندما ذهب، كانت الاهانة والاحتقار فى انتظاره، وعندما علا صوته للمطالبة بحقه، صفعته الشرطية المسئولة بالبلدية على وجهه، وكانت بداية النهاية، شعر بالمهانة وقد ربته امه على الكرامة حتى لو كان فقيرا، قرر الثأر لكرامته بطريقة خاصة، توجه الى محطة الوقود القريبة، اشترى بكل ما في جيبه من نقود كمية من البنزين، وتوجه الى مبنى البلدية واشعل النيران فى نفسه، ليكون جسده شاهدا على الظلم والمهانة وغياب العدالة الاجتماعية. اشعل محمد بوعزيزى بجسده المتفحم ثورة تونس الخضراء، وامتدت منها الى مصر وليبيا،لتسقط رؤوس الطغاة ،وواجهت الام المسكينة موت ابنها بالصدمة،وبمشاعر مختلطة،كانت مطالبة بان تفرح لان ابنها بطل الثورة، وان تخفى ألمها وجراحها لفقدان فلذة كبدها،ان تعلن امتنانها وشكرها لكل من ثمنوا انتحار ولدها،ولكن كل هؤلاء لا يمكنهم فى غمرة فرحتهم بالثورة ورحيل الطاغية ان يشعروا بمشاعر الام التى فقدت للابد ولدها،حتى لو علقوا له الف صورة، أو نصبوا تمثاله فى الميدان. أمس الأول توجهت منوبية إلى المحكمة للحصول على توقيعات من المسئولين تمكنها من الحصول على تعويضات لها منحتها الحكومة إلى أسر ضحايا الثورة،ومنهم ولدها،ولانها اصبحت أم البطل، استوقفها بعض المواطنين للتحدث معها، ولم تتنبه الى ان هناك مسئولين من المحكمة يمرون بالمكان،وانه يجب افساح الطريق لهم بصورة خاصة، كانت تعتقد ان الثورة التى دفع ولدها حياته ثمنا لها قد ساوت بين المواطنين،وقربت بين الطبقات، ولم يعد هناك سيد وخادم،فلما طلب منها أحد القضاة التنحى عن الطريق للمرور، رفضت،وتطور النقاش الى مشاجرة كلامية، وانتهى الامر باعتقال ام البطل بتهمة الاعتداء اللفظى على القاضى، واودعت السجن تمهيدا للمحكمة، التى قد تودى بها خلف القضبان اشهرا أو سنوات. لقد انحسرت الأضواء، وانصرف الاعلام،ونسى الجميع انها ام البطل، ونسى الجميع انها أم جريحة تسعى مع فقرها للحصول على ثمن فلذة كبدها حتى تعيش ما تبقى لها من ايام فى الحياة وحتى تعول باقى اولادها وزوجها المريض، إنها الآن خلف القضبان مع روح ولدها، التى بلا شك روح غاضبة لما اصاب امه،وتنتظر الام كلمة رحمة ترأف بها، كلمة تقدير تتجاوز عن خطأ عابر ان كان قد وقع،لان ما قدمته هذه الام لتونس لا يقابله اى شئ فى الحياة،وكل ما يجب ان تحظى به هو الرحمة.