في مقالنا السابق “القراءات التأشيرية والقراءات التهويمية”، عرضنا لثلاثة مؤشرات كمية ونوعية، حرصنا في اختيارنا إياها على ألا تكون عادية، وذلك اتساقاً مع متطلبات البحث العلمي ومنهجيته الصارمة ليس في مجال العلم ذي الصلة فقط، وهو هنا علم الاقتصاد السياسي وعلم العلاقات الاقتصادية الدولية، وإنما أيضاً في تاريخ الممارسات والتطبيقات السياسية للرؤى والأفكار والمبادئ التي حملتها النخب التي تربعت على سدة الحكم عبر التاريخ البشري المديد، وعملت على تطبيقها على أرض الواقع، فكان حرصنا على أن تجيء تلك المؤشرات من العيار الثقيل جداً، وذلك بتقصد محاولة إثبات أن جمال عبدالناصر لم يكن خلواً أبداً من رؤية استشرافية حاولت إعادة صياغة موقع ودور ومكانة مصر في العالم، وبما يدحض الزعم القائل إنه امتلك طموحاً وحسب، ولم يكن لديه مشروع تنموي متكامل . المؤشرات الثلاثة هي، للتذكير فقط انهاء الاحتلال البريطاني لمصر واستعادة كامل حيازة وسيادة مصر الاقتصادية على قناة السويس كأهم ممر مائي عالمي، هو اليوم يزاحم أبرز مصادر نمو إجمالي الناتج المحلي المصري، وأبرز مصادر إيرادات الموازنة المصرية العامة، وبناء السد العالي الذي أوضحنا بالحقائق والأرقام أهميته الاستراتيجية بالنسبة إلى هيكلة وإعادة هيكلة الاقتصاد المصري، وتعميم التعليم المجاني الذي يعود إليه الفضل في ما تتمتع به مصر اليوم من مئات آلاف الكوادر في مختلف التخصصات . إن المشروع التنموي الذي تبناه جمال عبدالناصر في مصر هو نموذج الدولة التنموية، أي الدولة التي تبادر استثمارياً إلى الانخراط في المشاريع والأنشطة التنموية لتحفيز القطاع الخاص في ما بعد للالتحاق بها والحذو حذوها . وقد اعتمد هذا النموذج على إعادة تحويل وتثوير القطاع الزراعي (قانون الإصلاح الزراعي الصادر في 9 سبتمبر/أيلول ،1952 أي مباشرة بعد الثورة) الذي أسهم في إعادة رسم خريطة الحيازات الزراعية والمداخيل الوطنية والتشكيلة الاجتماعية للمجتمع المصري، ما أنتج تثقيلاً محسوساً آنذاك لوزن الطبقة الوسطى . ورافق ذلك إطلاق مبادرات تصنيعية مقدامة تشهد عليها اليوم مجمعات حلوان والمحلة الكبرى الصناعية . وبفضل هذا النموذج التنموي (نموذج الدولة التنموية) الذي استنسخته بلدان جنوب شرق آسيا من مصر والهند وإندونيسيا ويوغسلافيا، تمكنت كوريا الجنوبيةوسنغافورة وتايوان من صنع معجزاتها الاقتصادية . هنا سوف ينبري المتحاملون على المشروع الناصري وكذلك الناقدون الموضوعيون له للرد على هذه المؤشرات القياسية لنموذجه التنموي بالقفز عليها فوراً بإيراد ما يوصم صاحب المشروع بالمغامرة وبنقص الديمقراطية، وهذا مذهب لا نختلف فيه مع المتصومعين في محرابه والكارهين لمغادرة صومعاتهم تلك على الإطلاق، بل إننا نزيد عليهم بالقول إنه لولا الاندفاع الحماسي الإقليمي للمشروع الناصري قبل تثبيت دعائمه وأركانه على الأرض المصرية، ولولا المحاربة الضارية والشعواء التي لقيها المشروع منذ بزوغه من جانب الغرب ومعه “إسرائيل”، لكانت فرصه في تكريس نفسه نموذجاً تنموياً مستقلاً ورائداً في منطقة الشرق الأوسط لا تقل عن فرص النموذج التنموي المستقل والمتميز الذي أرساه جواهر لال نهرو في الهند ولي كوان يو في سنغافورة وبقية نماذج الدول التنموية الناجحة في جنوب وجنوب شرق آسيا . وهي بالمناسبة نماذج ظلت تعاني فترة طويلة نقص الديمقراطية، التي لم تكن قط أحد مكوناتها، ولم تكن مدرجة على أجندة أولوياتها، فالأولوية كانت لبناء وتطوير القدرات (Capacity building) والانصراف التام للعمل التنموي وتحقيق أكبر قدر من إشباع حاجات الناس بصورة عادلة، والبناء على ما ينجز لتحقيق مستوى متقدم من الرفاهية المجتمعية” . وعودٌ على بدء هذا الموضوع الذي أردنا من خلال إثارته إزالة اللبس العالق طويلاً بشأن التجربة الناصرية في الحكم، والذي نزعم أن النخب غير المتخصصة مسؤولة بصورة أساسية عن حدوثه لأغراض لا علاقة لها البتة بمناهج البحث العلمي بقدر اتصالها بالنزعات الذاتية المؤدلجة سياسياً أو المشخصنة لحد التسطيح المخل، كالقول إن عبدالناصر لم يكن يملك مشروعاً بقدر ما كان يملك طموحاً، من دون أي اعتبار للمؤشرات الكمية والنوعية للمشاريع الاستراتيجية الضخمة التي نفذها خلال فاصل زمني قصير، والتي لا يقدم عليها إلا رجال نوعيون قليلون يتمتعون برؤية استشرافية لمستقبل بلادهم على الخريطة الإقليمية والعالمية مقرونة بشجاعة وجرأة تعطيهم ميزة إضافية في قبول حدود معينة من المخاطرة . وحتى إذا ما خرجنا عن إطار الموضوع الذي نحن بصدده، وقصدنا الجانب الشخصي (أي الإطار الأضيق للموضوع) فيه، وذلك مجاراةً لمن يفضل اختزال المشروع الناصري في الجانب الشخصي من صاحب المشروع، فنحن حتى في هذا الإطار الأضيق للتقييم، أمام رجل ذي شخصية كاريزمية مهيبة تميزت طوال فترة قيادتها للدولة المصرية بالصدق مع النفس والصدق مع الشعب، ناهيك عن النزاهة ونظافة اليد التي شهد له بها خصومه قبل محبيه . وهو لم يستثمر موقعه لمصلحته أو لمصلحة أبنائه وبناته وأقربائه . خالص القول في كل ما تقدم، هو أنك حين تستمع لمجادلين عرب في أية وسيلة إعلامية، وتقارن ما تسمعه بمجادلات حوارية أجنبية في وسائط إعلام ناطقة بغير العربية، ستجد أن فرقاً جوهرياً يكاد يتكرر ويطبع ويصنع الفارق بين المتجادلين في الجانبين . وهو يتمثل في الثالوث التالي: