الفنان والسياسي.. خصمان اصطرعا فى المهد، الأول يملك الحلم والجمال، والثانى يملك السيف والذهب، الأول مطلق والثانى مقيد. قرأت فى مذكرات الموسيقار محمد عبدالوهاب أن الفنان أهم من السياسى، وقرأت فى كتاب «طريق مصر إلى القدس» لبطرس غالى أن السياسى أهم من الفنان، إلا أن التاريخ ينحاز على طول مساره للفنان، حتى وإن تدخل السياسى فى تعرجات المسار، فمنذ الصفحة الأولى للوجود لايزال فضاء الفن مشرفًا، بينما «دهاليز» و«براويز» السياسة تهتز دائمًا حتى تسقط تحت أقدام التاريخ، وقد تجاذبت أطراف الحديث ما بين السياسة والفن فى حوارى مع الموسيقار الكبير محمد سلطان.. ورغم قيام الثورة وحديث السياسة الذى يفرض نفسه على الجميع كأشعة الشمس، إلا أن «سلطان» يجب أن يكون هناك بعيداً عن دنيا السياسة لا يغضب أحداً. بدأ «سلطان» الحديث معى حول الفن، والفن وحده، ولكنى جاذبته الحديث عن السياسة. وفى هذا الحوار لا أحاور الموسيقار محمد سلطان فحسب، وإنما محامى الاستئناف أيضاً. كيف ترى أثر السياسة على الموسيقى والغناء الآن؟ - على المسئولين الآن عن وضع واختيار اللجنة التأسيسية للدستور بعد حل مجلس الشعب، ألا يفعلوا ما فعل البرلمان حين تم تمثيل الفنانين بعضو واحد هو نقيب الممثلين ولم يعبأ البرلمان بأهل الموسيقى والغناء، وهذا يبرهن عملياً على أننا فى مصر - والعالم العربى كله كذلك - لا ندرك قيمة المبدع الموسيقى، وأستشهد هنا بقول الفيلسوف أرسطو: «إذا أردت أن تعرف حضارة شعب استمع إلى موسيقاه»، ولم يقل «شاهد أفلامه السينمائية أو حتى مسرحه»، فقد كان اليونانيون يعرفون «المسرح».. وأذكر أهل الحكم فى مصر أننا تزعمنا الأمة العربية بسبب قيمتنا فى الإبداع الموسيقى والغنائى، وهناك «أم كلثوم» يلتف حولها العالم العربى كله من المحيط إلى الخليج فى حفلات كل شهر، ولاتزال تسجيلاتها شاهدة على هذا العصر، وهنا أحب أن أؤكد أن «أم كلثوم» دون شاعر وملحن ليس لديها ما تقدمه للناس، وهذه المنظومة جميعها عبارة عن جمال، والله جميل يحب الجمال، وهذه طبيعة خلقها الله الذى من أسمائه تعالى «الوهاب الرزاق» أى يهب الجمال الذى يملأ الدنيا، وعلينا أن نذكر دائماً أن القبح من الإنسان والجمال من الله والخير أيضاً والشر منا، ومن أحب الله أحب الحب وابتعد عن الكراهية والقتل والانتقام، ليظهر الحب فى الطاعة. كيف تصف الذين يحرمون الموسيقي؟ - كيف تكون الموسيقى الجميلة حرام، وقارئ القرآن الكريم حين يجوده ينتقل من مقام موسيقى إلى آخر؟ ومن الأشياء التى تؤكد أن الموسيقى هى هبة وخير من عند الله، أن الله خلق سبع سماوات وسبع أراضين منها القارة المفقودة، وسبع بحور، وألون الطيف سبعة، وأيام الأسبوع كذلك، وحروف الموسيقى سبعة، وحروف «البيمولات» فيها سبعة، و«الدييزات» كذلك. لماذا تتضايق من الحديث فى السياسة رغم أثرها اللافح علينا؟ - السياسة دائماً تساوى مصالح، وتلك المصالح لا تنتهى، ولا نهاية لتشابكاتها، وقد تتضارب مصالح دول مع أخرى، والأقوى يسيطر، فهذه هى السياسة، لكن الفن والعلم شأن آخر، وقد قال تعالى: «إنما يخشى الله من عباده العلماء» لأن العالم يدرك بعلمه الذى وهبه الله قدر كل ما خلق سبحانه، وبذلك يحس معنى الجمال، وبالتالى يكون أكثر إيماناً وخشية من الله تعالي، ويحاول نتيجة لذلك أن يرقى بإبداعاته، ويبتعد عن كل ما هو مسف أو ضار، لأن الضرر يؤدى إلى العقاب، والجمال ليس به ضرر، وهناك قاعدة قانونية تسمى العلاقة بين الخطأ والضرر، فإن لم يكن الخطأ الذى وقع هو الذى تسبب فى الضرر فليست هناك تهمة. لماذا لم يتم دعوتك من الجمعية التأسيسية للدستور، رغم أنك رئيس جمعية المؤلفين والملحنين بالانتخاب؟ - لم يدعنى أحد، رغم أنى أرسلت لمجلس الشعب خطاباً باسم الجمعية يؤكد أنى أمثل المبدعين الذين يدخل تحت مظلتهم جميع الموسيقيين، لأنى أراه - وكل من يفهم سيتفق معى - أنهم جميعاً تحت مظلة المبدعين، وهذا التصرف يعبر - مع الأسف الشديد - عن التردى وعدم إدراك لقدر المبدعين الذين قدرهم العالم المتحضر وجعل لهم ما يسمى بحق الأداء العلنى. هل يجوز قانوناً وأنت تجمع بين الفن والعلم بالقانون بصفتك محامياً بالاستئناف أن يختار مجلس الشعب من أعضائه من يكتب الدستور ضمن الجمعية التأسيسية لكتابته؟ - إنها فوضي، فالسلطة التشريعية لا تخلق لنفسها ما تشاء، فالدستور يكتبه خبراء الدستور ومعهم من يمثلون جميع طبقات الأمة من نقابات ومهن وديانات واتجاهات، فالسلطة التشريعية لها أن تضع القانون، لا أن تضع الدستور، وأنا بطبعى لا أعشق الكلام فى السياسة، لكنى أتكلم بصفتى رجلاً درس القانون، وكنت أتمنى أن يتم بعد الثورة إدراك قدر كل إنسان له ثقل فى هذا البلد حتى نستطيع أن نتقدم ونتطور، ونواجه التحدى العالمي، فمصر أم الحضارات، وأقدم دولة على وجه الأرض، وليس جديراً بمصر ما يحدث على ظهرها، وقد ذكرها الله أكثر من مرة فى القرآن الكريم، وهى أرض الأنبياء. ما أسباب تردى الغناء فى عصر مبارك؟ - السبب الأول أن «مبارك» لا علاقة له بالجمال، وكل ما كان يشغله «كرة القدم» و«الجولف» أما الفن فلا علاقة له به، والإنسان الذى لا يشعر بالفن ولا بالجمال مشاعره ناقصة غير ناضجة، مع الإقرار بأن هناك أغانى قبيحة فى عصر مبارك لا دخل له بها، والملاحظ أن الجمال بين والقبح بين، حتى العمل الطيب يوصف بالجمال، والضار يوصف بالقبح، والله تعالى خلقنا فى هذه الدنيا الجميلة لنعبده ونحبه من خلال ما خلقه من جمال، والله رمز الجمال، وهو جميل يحب الجمال، فكيف لا يحب الإنسان الجمال، إن الله خلقنا لنحب فقط، فلا رضى منه إلا بالحب. كيف ترى الفارق بين «عبدالناصر» و«السادات» و«مبارك»؟ - لم أعرف «عبدالناصر» شخصياً، لكنى عرفت الزعيم البطل أنور السادات الذى له أياد بيضاء على الأمة العربية كلها وأعاد لها كرامتها بعد نكسة 67، ويكفى أنه تخطى خط «بارليف» الذى كان الجميع يقولون إن هناك استحالة لاختراقه، واخترقه ورفع العلم المصري عليه، وكان يستمع لكل ما هو جميل فى مجال الموسيقى والغناء، وبالنسبة لمبارك لم أسع يوماً للقائه. عرفت أنك بدأت مشروع تحصيل حقوق للمبدعين من المواقع الإلكترونية؟ - بدأت بالفعل تحصيل حقوق للمؤلفين والملحنين من المواقع الإلكترونية جميعها، فعليها حقوق لابد أن تحصل، وهى أموال تدخل مصر لأغانى مصريين تذاع على هذه المواقع ولابد لها أن تدفع ما عليها من حقوق الأداء العلنى، والمصلحة الوطنية المصرية تجعلنا نحاول إدخال العملة الصعبة لدفع حركة الإنتاج، وأذكر هنا أنه بالرغم من المرحلة الحرجة التى تمر بها البلاد، وأقصد الناحية المالية التى تأثر بها الجميع فى أعقاب الثورة، فقد تأثرت نتيجة لذلك جمعية المؤلفين والملحنين أكثر من أى جهة أخرى، فقد توقف اتحاد الإذاعة والتليفزيون عن السداد، لأنه ليس لديه ميزانية، وفضائيات كثيرة توقفت عن السداد، الأمر الى جعلنى أرسل إليها خطابات وإنذارات ودعاوى قضائية ومطالبات مستمرة بسرعة السداد لأنها حقوق الأعضاء، وهى أمانة فى رقبتى، والجهة الوحيدة التى لم أرسل إليها إنذاراً على يد محضر هى «اتحاد الإذاعة والتليفزيون» لأنه بيتنا لكننا نرجو سرعة السداد. ما الجهات التى تحصل منها الجمعية حقوق المؤلفين والملحنين؟ - من جميع المحلات السياحية والفنادق والمركب النيلية، ولكن لا سياحة فى مصر فى الوقت الحاضر، وبالتالى الجميع ليس لديهم إمكانية سداد حقوق الجمعية. ما الطريق لإصلاح الغناء الذى طال فساده وإفساده للذوق العام؟ - ما نحن فيه فترة عصيبة تمر بها البلاد، ولا أعتقد أنها تسمح لنا بأن نفكر فى الوقت الحاضر ما الذى سنفعله غداً إلا بعد أن يكرمنا الله سبحانه وتعالى بالاستقرار والأمان والرزق الذى مصر الآن فى أشد الحاجة إليه، فالجميع يعرف أن الغطاء النقدى لمصر على حافة الهاوية، وأننا على مشارف الإفلاس ويجب أن نعى أنه ليس أمامنا إذا كنا نحب مصر إلا أن نكون بلداً آمناً بحيث يتهافت السياح إليه، لتبدأ مصر إحساس الانتعاش، وألا نفكر فى غير العمل وأن نهدأ، لأن القاعدة التى رسخها فضيلة الشيخ محمد متولى الشعراوى والتى تقول «الثائر الحق يثور ليهدم الفساد ثم يهدأ ليبنى الأمجاد» فالثورة إذا كانت بلا حدود وبلا نهاية كانت سبباً فى الخراب، وندعو الله أن يلهم المسئولين عن مصر الصواب وحسن اتخاذ القرار والتمسك بالحب، لأنه بالحب يتم البناء وبالكراهية يتم الهدم، وفى رأيى لكى يتم البناء علينا التفكير فى مصر ونتلاشى المصالح الشخصية الضيقة أمام مصلحة مصر التى تنادينا جميعاً بأن نتكاتف لبناء مستقبل تستحقه مصر التى أعطتنا الكثير. ما الخطوة الأولى لإصلاح الدولة؟ - التعليم أولاً.. فهو بوجه عام ردىء، وأنا أفزع حين أرى الغش «بالمحمول» فى الامتحانات ليتخرج خريجون جدد لا يفهمون شيئاً، ومن المنتظر أن يكونوا سلاح مصر الذى سيقاتل فى جميع الميادين، ليقال مصر تقدمت أو تخلفت، فمع الحزن الشديد هناك إهمال فى كل شىء، والغش مبعثه عدم الأخلاق، وأذكر هنا بيت «شوقى» إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا»، فلا علم ولا حضارة من غير أخلاق، وهذه مسئوليات جسيمة على هذا الرئيس الجديد الذى بينه وبين مقعد الرئاسة ساعات وخطوات، ومن بين الأخلاق التى ينبغى تعلمها أن الدين لله والوطن للجميع، فليس لى أن أحاسب غيري، بل أحاسب نفسي، مع العلم أيضاً أن الأخلاق تنبع من البيت، حيث يوجد الأب والأم اللذان ليس وظيفتهما إنجاب الأطفال فحسب، ومن العجب أنه فى العالم كله ليس هناك ما تسمى بالمجاميع لكى يدخل الطالب مثلاً كلية الطب، فعليه عندنا أن يحصل على مجموع كبير فى علوم بعيدة عن الطب، لكن فى أوروبا هناك من يصلح للطب أو يصلح للهندسة أو الآداب أو الحقوق، فيدخل الكلية التى تلائمه ويمر بعام تجربة لامتحان قدراته فيها، وإذا فشل يحول لكلية أخرى، فيتقدم بذلك للكلية على سبيل المثال ألفا طالب يأخذون منهم سبعين فقط، وبذلك يتقدم البلد، ومن المثير للسخرية عندنا أن الطالب يحصل على مجاميع متقدمة فى اللغة العربية والتاريخ فيدخل الطب، وقد يدخله «بالمحمول» أيضاً. كيف يمكن أن يساهم الإعلام فى إعادة بناء العالم الفن الجميل؟ - ما يحدث فى الإعلام الآن تهريج، حيث تذاع الكثير من الأغانى الهابطة عديمة الذوق، والتى تنفر منها أى نفس طبيعية، إنى لأذكر أوبريت لحنته عن «أكتوبر» كلفنى به السادات غنت فيه فايزة أحمد وهانى شاكر وثروت ونادية مصطفى وشكوكو ومحمد العزبى ولم يذع أو يبث منذ موت «السادات»، واكتفى الإعلام بتقديم احتفالات أكتوبر «الضربة الجوية» التى كأنها وحدها أتت لنا بالنصر، وكأنه ليس السادات قائد هذه الحرب المجيدة، إن الإعلام الغنائى يعيش مرحلة العبث، وظلمت به مصر وتعبت للغاية، ومازلنا لم نخرج من المطب بعد، وماذا ننتظر للإصلاح حتى تخرب مصر.. مطلوب من الرئيس الجديد أن يأخذ مصر نحو النجاة قبل أن نغرق جميعاً، إنى أحلم قبل أن أغادر الحياة أن أرى بشائر مطمئنة على حال الغناء والموسيقى فى مصر، كما أحلم أيضاً بتحقيق الأمن وتنظيم المرور وأن يحترم بعضنا البعض. هل عقدتم لجنة للاستماع فى اتحاد الإذاعة والتليفزيون بعد الثورة؟ - لم نعقد لجنة واحدة، باستثناء لجنة كانت للاستماع لبعض الأغانى الوطنية. ما السبب الحقيقى لكراهيتك لعالم السياسة؟ - شخصيتى لا تتلاءم مع العمل السياسى الذى كله تعرجات والتفافات، وأنا أحب الخطوط المستقيمة، فأحب أن أبتعد عن هذا العالم، ولولاك ما تحدثت فيه الآن، كما أن السياسة تقبل بأنصاف الحلول والانتظار والتقلب، وكلها أشياء لست منها فى شىء. بماذا توصى الرئيس الجديد؟ - بأشياء كثيرة تضمنها حوارى بالإضافة إلى أن مصر لا تتقدم بالكلام، فقل لى كيف تكون منطقة «الهرم» الجميلة بها ترعة المريوطية التى تعج بالزبالة والحيوانات النافقة والحشرات فتنتشر الأمراض، فعلى سبيل المثال هل الكلام يحول الترعة الموبوءة إلى بحيرة رائعة، فعلينا جميعاً مواجهة الواقع، وإصلاح ما أفسده الزمن.