تحت هذا العنوان نشر مجلس العلاقات الخارجية الأمريكى مقالاً بتاريخ 21/5 للكاتبين ستيفن كوك وحسيب صباغ يتضمن نظرة شاملة على الوضع السياسى فى مصر منذ قيام ثورة يناير المجيدة للآن. يقول الكاتبان إنه على مدى الستة عشر شهراً الأخيرة شهدت مصر مشاكل اقتصادية طاحنة، وتظاهرات احتجاجية، وموجات من العنف، وتراجعاً واضحاً فى سلطة الدولة، ورغم هذه التحديات فلم تؤد أى منها إلى إطفاء الأمل الذى أشعله ميدان التحرير فى عيون معظم المصريين، كما كان البعض يخشى، ورغم ذلك فمن المؤكد أن النشطاء الثوريين قد فقدوا بريقهم، وأثبت الليبراليون أنهم متشرذمون إلى درجة تمنع ظهورهم كقوة سياسية فعالة، أما الحركة العمالية وهى عادة كتلة مؤثرة فمازال عليها أن تثبت وجودها على المسرح السياسى. وهذه الأوضاع تجعل مصر عشية الانتخابات الرئاسية، تواجه الصراع المعروف بين قوى الإسلام السياسى وبين المدافعين عن الدولة المصرية أى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ورغم ذلك فقد تغيرت الديناميكيات السياسية فى مصر تغيراً جذرياً، فالسياسة فى مصر الآن تسير وفق مجموعة جديدة تماماً من المبادئ، مما يوحى بأنه، بصرف النظر عمن سينتخب رئيساً لمصر، فإن عهد الرئيس الفرعون قد انتهى تماماً وبلا رجعة. فالرئيس القادم لمصر يبدو أنه سيكون خاضعاً لسياسات جديدة تتضمن أن مطالب القوى الشعبية لم يعد ممكناً تجاهلها أو رشوتها أو قمعها بالقوة، وهذه البيئة السياسية الجديدة التى يواجه فيها رئىس أكبر دولة عربية العديد من التحديات الداخلية الصعبة، هذه البيئة من المحتمل أن تتسبب فى تهميش الدور المصرى فى السياسة الخارجية، حيث سيركز المصريون جهدهم على بناء نظام سياسى جديد، وربما تكون أهم عوامل هذه البيئة السياسية الجديدة هو التغير فى الحوار الوطنى حول القوة والسلطة وشرعية النظام السياسى، لا شك أن المصريين كانوا يسألون أنفسهم هذه الأسئلة قبل ثورة يناير سنة 2011، ولكن منذ سقوط مبارك فإن النشطاء السياسيين والصحفيين والساسة والمواطنين الذين بدأ اهتمامهم بالسياسة بعد الثورة، أصبحوا يسألون أنفسهم الأسئلة نفسها بطرق جديدة كثيراً ما تؤدى إلى نتائج لم يكن أحد يتصورها قبل ذلك. فرغم استطلاعات الرأى التى تؤكد أن أغلبية كبيرة من المصريين مازالت تكن احتراماً كبيراً للعسكريين فإن الأقلية فقط هى التى تؤيد نظام حكم يسيطر عليه العسكريون، مما يجعل من الصعب على ضباط المجلس العسكرى أن يرتبوا انسحابهم من شئون الحكم اليومية مع الاحتفاظ بمكانتهم وبمزاياهم الاقتصادية وبوضعهم القوى فى النظام السياسى دون تراجع. كانت الصيحات فى الخريف الماضى تحت شعار «المبادئ السلمية» وبمقتضاها كان المأمول منح القوات المسلحة استقلالية كبيرة عن الحكام المدنيين، وكان هذا مثالاً لمفهوم السلطة ومن الذى له حق ممارستها فى مصر ما بعد الثورة، وقد أجبرت تظاهرات ميدان التحرير الحكام العسكريين على الحد من تطبيق قوانين الطوارئ التى كانت أداة الحكم فى عهد كل من عبدالناصر والسادات ومبارك، أما الإخوان المسلمون فقد عجزوا عن فرض إرادتهم على الساحة السياسية، فرغم أن لديهم أغلبية مقاعد البرلمان، ويسيطرون على منظمات ضخمة ولديهم رؤية واضحة عن مستقبل مصر الاقتصادى، ورغم ذلك تعثرت خطاهم فجأة، فتنظيمهم منقسم على نفسه، كما تضاءلت قدرة مكتب الإرشاد فى السيطرة على أعضاء التنظيم خاصة الشباب منذ اندلاع ثورة يناير، وكون عبدالمنعم أوالفتوح قد طرد من التنظيم بسبب ترشحه للرئاسة ضد رغبة مكتب الإرشاد، كما ساند ترشيحه عدد كبير من أعضاء التنظيم وهو خير دليل على الصعوبات التى يواجهها مكتب الإرشاد فى السيطرة على التنظيم وممارسة سلطاته. ويبدو من استطلاعات الرأى تراجع فرص مرشح الإخوان للرئاسة محمد مرسى، مما يدل على أن الإخوان يدفعون ثمن تراجعهم عن تعهدهم السابق بعدم تقديم مرشح لرئاسة الجمهورية، ورغم أن المصريين ساندوا مرشحى الإخوان فى الانتخابات البرلمانية فإن تراجع الإخوان عن وعدهم بالنسبة لانتخابات الرئاسة ذكر المصريين بالنفاق السياسى خلال حكم مبارك، وتوضح المتاعب السياسية التى يواجهها الإخوان أنه فى البيئة السياسية الجديدة المنفتحة فى مصر فإن المواطنين مصممون على إثبات وجودهم وعلو صوتهم السياسى بقوة، وهذا فى حد ذاته هو أحد أهم إنجازات الثورة فى مصر، فالمصريون الآن لا يكتفون بمحاسبة قادتهم ولكنهم يطبقون المبادئ التى أخرجت مئات الألوف إلى ميدان التحرير وهى محاسبة القادة وحكم القانون والحفاظ على حريات المواطن الشخصية والسياسية سيحتاج الساسة المصريون ومن يريدون منهم الارتقاء للقيادة السياسية إلى اعتناق الأفكار الليبرالية وإعطاء مبادئها معنى حقيقياً فى التطبيق. هناك اعتقاد خاطئ تماماً عن الثورة المصرية، وهو أنها اندلعت بسبب الظروف الاقتصادية السيئة التى دفعت الآلاف إلى الشوارع، صحيح أن سوء الحالة الاقتصادية ساعد فى إيجاد مناخ من السخط قبل 25 يناير سنة 2011، ولكن سبب الثورة الأساسى هو أن المصريين خرجوا يطالبون بالحرية والعدل والكرامة عندما أسقطوا مبارك، فمن سخريات القدر فى السياسة المصرية المعاصرة أن المبادئ الليبرالية انتصرت على حساب الليبراليين أنفسهم، ومع ذلك فقد أصبحت هذه المبادئ حيوية لكل المشتغلين بالسياسة من المصريين وبمن فيهم السلفيون الذين يحاول ممثلو حزب النور السلفى إقناع المصريين بأن مبادئهم السلفية متسقة تماماً مع مبادئ الليبرالية من حيث تفسيرهم الإسلام، وستؤدى هذه المفاهيم إلى صعوبة أن يحاول أى رئيس مصرى مستقبلاً إيجاد حلول شمولية لمشاكل مصر وقد يكون هذا سبباً فى إطالة فترة التحول فى مصر، ولكنه يقوم دليلاً على أن الساسة المصريين سيحتاجون ليس فقط لترديد الشعارات الليبرالية بل لإعطائها معنى ظاهراً، وإلا قد يستمرون فى مواجهة مطالب جماهيرية فى مجتمع يطالب بتضييق الفجوة بين المبادئ والممارسة الفعلية لها. ويؤدى ظهور جماعات سياسية جديدة فى مصر إلى إحداث أثر واضح على ممارسة القوة والسلطة فى مصر الجديدة، فقد كتب الكثيرون عن السلفيين الذين كان نظام مبارك يساندهم سراً فى سنوات حكمه الأخيرة ليواجه بهم الإخوان المسلمين وكان النظام المباركى يعتقد خطأ أن السلفيين مستأنسون بطبيعتهم وليس من الواضح ما إذا كانت سياسات مبارك مسئولة عن نجاح حزب النور السلفى سياسياً ولكن الواضح أن حزب النور ينافس الإخوان المسلمين على منصب من له حق التحدث باسم الإسلام فى مصر سياسياً، وبجانب حزب النور يحاول شيخ الأزهر إعادة مجد الجامع الأزهر وجامعته إلى سابق عهدهما. ونتيجة كل هذه الديناميكية فى المجال الإسلامى للساحة السياسية أنه لن تكون هناك مجموعة وحيدة قادرة على فرض رؤيتها على المجتمع المصرى، ومع ذلك ونظراً لأهمية الشعور الدينى فى مصر فإنه من المرجح أن أى رئيس مصرى مستقبلاً سيضطر للتوازن بين هذه التيارات الإسلامية المتعددة، وهو ليس أمراً سهلاً، فعلى سبيل المثال فإن إعادة صياغة العلاقة بين الدين والدولة ستكون محورية فى نجاح أو فشل عملية وضع دستور جديد لمصر. كما أن المسرح السياسى فى مصر لم يواجه بعد القوة الكاملة للحركة العمالية النقابية التى تستطيع لعب دور مهم على الساحة السياسية، وقد كانت الحركة النقابية التى تستطيع لعب دور مهم على الساحة السياسية، وقد كانت الحركة العمالية هى أكثر ما يخيف مبارك سياسياً على أساس أن معارضة عمالية موحدة لنظام حكمه كانت كفيلة بزعزعة أمن النظام، فإذا ظهرت الحركة العمالية الموحدة من جديد فى مصر الحديثة فإنها ستكون قوة دفع اقتصادى واجتماعى كبيرة فى تحديد سياسة الدولة، وهو الأمر الذى سيضطر أى رئىس مصرى إلى أن يفكر كثيراً قبل المخاطرة باتباع سياسة مشابهة لما عرف بالإصلاحات الليبرالية الجديدة التى اتبعها مبارك ورجال الأعمال المحيطون به فى أواخر سنوات حكمه. إن انتخابات الرئاسة فى مصر لا تمثل نهاية الفترة الانتقالية ولكنها على أكثر تقدير خطوة متوسطة نحو بناء مصر جديدة فى نظامها السياسى، وبصرف النظر عن النتيجة فإن من الواضح أن طبيعة السلطة فى مصر قد تغيرت، ورغم أن أى رئيس جديد قد يحاول التمسك بأقصى ما يستطيع من سلطة الرئيس السابق، فإنه سيواجه تحدياً من البرلمان ومن العسكريين، ومن المواطنون المصرى العادى الذى لم يعد قابلاً لاحتمال مظالم تزوير النظام السياسى الذى كان سائداً. وإلى هنا ينتهى هذا العرض الشيق للساحة السياسية المصرية واحتمالات تطورها، ولا يسعنا إلا إبداء أشد الإعجاب بهذا التحليل المتميز رغم ما قد نرى فيه من تفاصيل نختلف معها. -- نائب رئيس حزب الوفد