سيدتى المبجلة أم المصريين صفية هانم زغلول.. اسمحى لى أن أستخرج شهادة معنوية تفيد قيدك تحت خانة الأم، لكى أكون ضمن أبنائك الجدد من المصريين، الذين لم ترهم عيناك فى الحقيقة التاريخية ولكنهم ينسبون اليك بالضرورة والواقع بحبل سرى يتغذى على حب الوطن واستنشاق نسيم الحرية، على الرغم من رحيلك سيدتى منذ عشرات السنين، فى محاولة متواضعة من إحدى حفيداتك تريد الانتساب إليك للإمساك بتلابيب لحظاتك الإنسانية الحميمة والدافئة مع رفيق دربك وحبيب عمرك الزعيم الخالد سعد زغلول. كثيرون قبلى سيدتى من كتبوا عنك آلاف الصفحات وعن نضالك وكفاحك الوطنى ضد المستعمر الإنجليزى بجوار الزعيم سعد زغلول ملهم ثورة 1919 وقائدها، وكيف حولت بيتك الصغير ليكون بيت الأمة المصرية بأكملها. ولكنى أفكر سيدتى العظيمة صفية فى أحاديث المساء بينكما خلف الأبواب المغلقة وفى جلسات الفضفضة وفناجين الشاى الساخنة توضع وترفع وأنتما تجلسان على الكنبة الوثيرة فى حجرة نومكما. فى قلبك الرقيق وكيف تحمل الحب من رجل يمتلكه ملايين المصريين معك، أفكر وأتصور غيرتك عليه وانبهارك بشخصيته، طاعتك له بدون إجبار أو شرط، ولكن بعشق وإيمان لكل كلمة يقولها، قلقك الدفين من حرمانه من إحساس الأبوة والتفكير ألف ألف مرة لتعويضه هذا الحرمان، وحزنك على فراقه ورحيله، أريد سيدتى الجميلة والرقيقة أم المصريين صفية هانم أن تأذنى لى وتسامحينى كى أرى بعيونك قصة حب صفية لسعد. = الزعيم بعيون صفية = أجمل ما فى مذكرات الكاتب الكبير مصطفى أمين عن حياته فى بيت الأمة بيت الزعيم سعد زغلول وصفية هانم زغلول ، هو كم التفاصيل الحميمة التى نقلها عن السيدة صفية وما روته عن بدايات تعلقها بسعد وأحاسيسها تجاه شخصيته القوية الممزوجة بالضعف والحنان، فهو يراها فى عينيه أجمل نساء الارض فأتصورها وأحسد الكاتب الكبير مصطفى أمين أنه سمع منها تقول وقد احمرت وجنتاها وبخجل: كان سعد يكره مساحيق التجميل لذلك لم أضع أى نوع منها احتراما لمزاجه الخاص. أما عن ليلتها الأولى مع الزعيم وعندما استعدت صفية للخروج يوم الزفاف من بيت والدها بباب اللوق قالت لها أمها حسب رواية مصطفى أمين: «الآن ستخرجين من بيتك إلى بيت سعد فى غمرة وستركبين الحنطور وعندما تصلين إلى هناك سينزل هو أوّلا ويقول تفضلى فلا تنزلى وسيقولها مرة ثانية فلا تنزلى وسيقولها مرة ثالثة عندئذ انزلى. وركبت صفية زغلول الحنطور وظلت صامتة طوال الطريق وعندما وصلا إلى غمرة نزل سعد وقال لها تفضلى فلم تنزل عندئذ أولاها ظهره وتقدم ناحية البيت فلم تملك إلا أن خرجت فى إثره حتى دخلت. هكذا وببساطة تنقل أم المصريين صفية زغلول وبحس شديد العفوية لحظات الدهشة والانبهار بزوجها بل ولم تخف تلك الواقعة ولم ترو عكسها، وكأنها تريد أن تقول أن قلب سعد لا يتحمل دلال النساء ومكرهن، فكل ما سيحدث بيننا قائم على الصدق والصراحة ودعوته لدخول بيتنا كان دعوة محب لكى أشاركه لياليه وسنوات عمره القادمة. وربما روت أم المصريين صفية زغلول أحداث تلك الليلة لكى تفسر لمن حولها عشقها الكبير للزعيم سعد زغلول وطاعتها له فى أدق أمور حياتها وكيف كان هو هذا الزوج الذى رفض أن يطلب نزولها مرة ثانية من الحنطور ليلة زفافهما وأولاها ظهره، يختار لها ملابسها وزينتها، بل ويرفض بعين القلق أن ترافقه فى منفاه خوفاً عليها وهو العليل بالقلب وداء السكر. ولتبادله هى نفس الاهتمام والحب، وتعشق طريقته الساحرة فى معاملته لها كسيدة يجب أن تحترم قراراتها وزوجة تستحق أن تحب، فترفض بشكل قاطع أن يقوم على شئونه خادم فكانت تشرف على كل ما يتعلق بزوجها سعد بنفسها، بل وعندما قبض على سعد زغلول أصرت أن يعقد اجتماع أعضاء الوفد فى بيتهما أو كما آمنت هى قبل غيرها فى بيت الزعيم سعد زغلول وليس فى بيت على باشا شعراوى وكيل الوفد قائلة وبحسم: إن هذا ليس بيت «سعد» إنه بيت الأمة وقلعة الثورة. وبصوت أضعف: بعد أن أخذوه لم تعد لحياتى قيمة، قيمة حياتى وهو هنا. وأمرت صفية بفتح أبواب بيت الأمة، وتخصيص كل غرفة للثورة.. = معارضة الزواج = فى هدوء وثقة امرأة فازت بقلب الزعيم سعد زغلول تذكر أم المصريين صفية بحسب رواية الصحفى الكبير مصطفى أمين أن أقوى من عارضوا زواجها هى الأميرة نازلى فاضل بنت مصطفى فاضل باشا بن إبراهيم باشا بن محمد على باشا، وليس كما أشيع فى الصحف المصرية وقتها أن الفضل فى زواج سعد بصفية يعود للأميرة نازلى فاضل، حيث إنها توسطت لدى والد صفية، وأقنعته ب«سعد زغلول»، حيث اعتبر زواج صفية زغلول سليلة عائلة محمد على وابنة رئيس الوزراء مصطفى فهمى، انقلابا فى نظرة المجتمع المصرى فى ذلك الوقت لهذا الثنائى الغريب سعد وصفية، فكيف لقاض مصرى أصيل تورط سابقا فى ثورة عرابى أن يتزوج كريمة رئيس الوزراء والمقرب لدوائر الحكم. ولكن الحقيقة كما روتها أم المصريين صفية عن المرأة التى نازعتها ربما لفترة على قلب الزعيم سعد زغلول هى الأميرة نازلى فاضل والتى وقفت عقبة ضد زواجها من سعد زغلول، لدرجة أنها لجأت إلى اللورد كرومر والخديو عباس حلمى الثانى لمنع هذا الزواج. ولما فشلت توصلت لمصطفى فهمى باشا لتخبره بأن سعد زغلول متزوج من امرأة أخرى فى قرية إيبيانة، وعندما أرسل مصطفى باشا فهمى إحدى جواريه للتأكد وجد الأمر كاذبًا، وبعدها هددت نازلى بالانتحار ولكنها فى النهاية رضيت بقسمة القلوب وقسوة التاريخ معها، فيوارى اسمها ويخلد اسم صفية زوجة الزعيم سعد زغلول وأما لكل المصريين. أما الزعيم سعد زغلول فلم يكن أقل سعادة من صفية إن قصتهما خلطة ساحرة من الزواج والحب والفهم المتبادل ويشكر الله كثيراً على من جعل صفية حبيبته وزوجته، حيث يقدم الكاتب الكبير عباس العقاد فى كتابه الشهير «سعد فى بيته» أن فضل زواج سعد زغلول من صفية يرجع لقاسم أمين باعتراف سعد نفسه، حيث قال «أكبر مأثرة من قاسم أمين أذكرها مدى الحياة هى توسطه لزواجى من صفية». = الإيمان المطلق بالزعيم = ثمانية عشر عاماً رقم عجيب فى قصة الحب والوفاء بين أم المصريين صفية والزعيم سعد زغلول، فحينما تزوجته كانت فى سن الثامنة عشرة عاماً، وحينما فقدته بالموت لم تعش بعده سوى ثمانية عشرة عاماً، أما ما بين قربها منه ورحيلها إلى جواره فهناك ثلاثون عاماً من الحب والإيمان المطلق بشخصيته وأفكاره وكفاحه الوطنى، بل والإحساس بزعامته التى رأت فى تولى سعد زغلول رئاسة الوزارة عام 1924 انتقاصًا لها فتراها تستقبل الوفود فى بيت الأمة بكلمات جياشة لرفيق دربها ومعلمها الأول والأخير فى الحياة والسياسة والحب قائلة:"يجب أن تقدموا لى العزاء وليس التهنئة، إن سعد زغلول هو زعيم الأمة وهو الآن فى مكان أقل بكثير، فما قيمة رئاسة الحكومة مقابل زعامة الأمة؟"، وعندما استقال سعد زغلول من رئاسة الوزارة استقبلته صفية زغلول مبتهجة قائلة: «هذا أسعد يوم فى حياتي، مهمتنا الكفاح وليست تولى المناصب». هكذا كانت ترى أم المصريين صفية "سعدًا" فى عيونها فهو أكبر من كل المناصب والألقاب، فيكفى أن تسير بجواره تدعمه وتمنحه قوة المحبين لكى يقود الشعب لطريق الحرية والاستقلال، لذلك عندما قرر سعد زغلول أن يهب حياته للنضال الوطنى قال لها: "لقد وضعت رأسى على كفى الأيمن" فكانت إجابتها بدون تردد: «وأنا أضع رأسى على كفك الأيسر». = رسائل حب = روايات كثيرة تناولت رسائل أم المصريين صفية زغلول إلى حبيب قلبها "سعد" من فوق مكتبها الصغير الأنيق والمصنوع من الخشب الماهوجنى ذى الذوق الفرنسى الرقيق فى غرفة ملابسها بالطابق العلوى من بيتهما، تبث فى تلك الرسائل حزنها على فراقه وشوقها إلى سماع صوته وخوفها على صحته وأن يصيبه مكروه فى منفاه البعيد، ولكن تلك الرسائل كما روى عنها كانت تقوم أم المصريين صفية زغلول بحرقها وهى تبكى فلم يصلنا منها شىء، فلا يوجد سوى بيانها الشهير فى مظاهرة حاشدة عقب نفى «سعد» والذى منحها لقب أم المصريين حينما ردد أحد قادة المظاهرة بعد إلقاء البيان: «تحيا أم المصريين»، وقرأته سكرتيرتها: «إن كانت السلطة الإنجليزية الغاشمة قد اعتقلت "سعدا"، فإن شريكة حياته السيدة صفية زغلول تُشهِد الله والوطن على أن تضع نفسها فى نفس المكان الذى وضع زوجها العظيم نفسه فيه من التضحية والجهاد من أجل الوطن، ولذلك تعتبر نفسها فى هذه اللحظة أمًا لكل أولئك الأبناء الذين خرجوا يواجهون الرصاص من أجل الحرية. = إحساس الأب = هى وحدها أم المصريين صفية زغلول تستطيع أن تأخذك إلى أقرب مسافة للإنسان والزعيم سعد زغلول، لكى تراه وتعيش مشاعره وهو يحلم كأى رجل يحب زوجته أن تهبه من صلبه أبناء يحملون ملامحه وفلسفته فى الحياة، ربما دارت بينهما أحاديث وأمنيات طويلة فى ليالى الشتاء الباردة حول حجرات بيت الأمة الكبير، وفراغها الذى يتمنيان أن يمتلأ بالصخب وضجيج أولادهما، وربما كان الصمت بينهما رسالة شجية من عيون الزعيم تلقفتها أم المصريين صفية زغلول لتفتح بيتها وقلبها لابنة أخت الزعيم رتيبة اليتيمة الأبوين، لكى يتبناها سعد وتقيم فى منزلهما كابنة محبة لهذين الزوجين اللذين عوضاها حنان الأم وفقدان الأب، بل وتمنح أم المصريين صفية زغلول زوجها الزعيم لحظات الترقب والفرح الممزوج بالخوف فى انتظار الحفيد أو ابن رتيبة القريبة إلى قلبه وقلبها، ففى الفصل الخامس من كتابه «من واحد لعشرة» كتب الصحفى الكبير مصطفى أمين قصة ميلاده هو وتوأمه على أمين فى 21 فبراير عام 1914 فى بيت الأمة بيت سعد زغلول وصفية قال فيه: «صرخت رتيبة والدة التوأمين وابنة شقيقة سعد زغلول بصوت عال كالرعد هز جدران بيت سعد زغلول الهادئ، وقفزت صفية زوجة سعد من مقعدها ملتاعة وراحت فى لهفة إلى حجرة ابنتها المتبناة رتيبة التى تنتظر مولودها الأول». وتابع: "كانت صفية قد حرمت طوال سنوات زواجها من أن تكون أمًّا، وعاشت شهور حمل رتيبة تحلم بأن ترى طفلًا فى بيتها لأول مرة وها هو ذا اليوم قد جاء واتصل سعد بالدكتور ملتون الطبيب السويسرى المشهور الذى حضر على الفور وبعد دقائق خرج من الحجرة يحمل بين يديه مولودًا أكبر من الحجم المعتاد وتصيح صفية ولد ولد». وأضاف: "فجأة صاحت الحكيمة المصاحبة للدكتور الحقوني، فيه واحد تاني، ليخرج المولود الثانى أقل حجما من الأول. وما كادت رتيبة تعلم أنها أنجبت توأمين ذكرين حتى أغمى عليها من الفزع وأسرع الطبيب يسعفها، كانت رتيبة تحمل هم تربية مولود واحد فكيف تربى طفلين..قالت لها صفية هانم إن سعدًا قال لى إنه أسعد رجل فى العالم لأنك رزقت بولدين، فقالت رتيبة لكنى أتعس أم فى العالم فكيف أربى طفلين. قالت صفية: أقترح أن نسمى الأول باسم عمى على بك زكى والثانى باسم والدى مصطفى». وواصل الكاتب الصحفى فى كتابه: "اقترحت صفية على رتيبة أن تتبنى هى وسعد الطفل مصطفى وتتفرغ رتيبة لتربية علي، ووافقت رتيبة، إلا أن زوجها أمين يوسف الذى كان غائبًا فى دمياط يترافع فى محكمة دمياط لإحدى العاشقات الحسناوات التى تنكر لها حبيبها، ما إن عاد حتى غضب ورفض اقتراح التبنى بعنف وقال لا يمكن أن أبيع ابني». واستطرد «أمين»: « قالت رتيبة إنه خالى وأبى الذى تبنانى وربانى وأنا يتيمة الأبوين وأقل ما أفعله أن أرد له جميله وأسعده فى شيخوخته. لم تمر الأزمة ببساطة على بيت سعد زغلول فقد حزن سعد حزنًا شديدًا، فقد أحس كأنه طعن فى قلبه بسكين زوج ابنته المتبناة. جاء الأب ليعرض عليه أن يبقى الولدان معه فى بيته بشرط أن يحملا اسم أبيهما». وقال: «وأقامت أسرة أمين بمنزل سعد زغلول الذى أصبح يقضى معظم أوقاته فى مداعبة وتربية الطفلين ويصحبهما معه فى كل مكان، وبعد سنوات قليلة قامت ثورة 1919 وأصبح سعد زغلول زعيمًا، وعلى مائدة الغداء فى بيت الأمة قال سعد : «إن أمين عز عليه أن آخذ أحد ابنيه لكن الله عوضنى عن هذا الحرمان بدلا من ولد واحد أصبحت أبا لأربعة عشر مليونًا من المصريين». = وداع الحبيب = كم أنتِ جميلة يا أم المصريين، حينما تحبين وحينما تودعين، كيف استطعتِ يا صفية هانم أن تكونى بكل هذا الثبات والإدراك التام لقيمة الزوج والحبيب الراحل وترفضى أن يوضع على نعش رفيق عمرك ومعلمك الأول والأخير فن الحياة وطقوس حب الوطن الزعيم سعد زغلول النياشين والأوسمة التى حصدها فى حياته قائلة وأنت تبكى: «لفوه بالعلم المصرى فقط فهو النيشان الوحيد الذى أفتخر به». ولتقومى بتخليده فى قلبك بعد وفاته فتبيعى كل مصوغاتك وعددها 120 قطعة وتشترى حلياً من اللؤلؤ مرددة: إن اللؤلؤ هو رمز الدموع. = وصية صفية = تأتى نهاية أم المصريين صفية هانم زغلول تليق بقصة حياتها المليئة بالكفاح والوطنية والمفعمة بالحب والوفاء من شخصية استثنائية فى الحياة، وبعد مرور ثمانية عشر عاماً على رحيل الحبيب والزعيم سعد زغلول، فكما كانت حياتها فريدة فى عصرها جاءت وصيتها شديدة الخصوصية والعطاء، فقد أوصت صفية لخدمها بمبلغ خمسة آلاف جنيه اشترت بمعظمها أسهمًا من أسهم القرض الوطنى وأودعتها ببنك مصر باسمهم وقد تحررت هذه الوصية فى 31 يناير 1934 وكان شهودها: رفعت النحاس باشا ومعالى مكرم باشا.