ربما كانت مهمة وزير الداخلية الجديد من أصعب مهام الوزراء الجدد، ذلك أنه مطالب بمهمة ثقيلة مزدوجة، إعادة هيكلة جهاز الأمن وتغيير صورة الشرطة في أذهان الناس لاستعادة ثقتهم فيها، بالطبع لن يكفي العودة لشعار »الشرطة في خدمة الشعب« لكن المهم هو ترجمة هذا الشعار لواقع ملموس، وبالمناسبة فإن أي موظف حكومي مهما علا شأنه أو قل هو خادم للشعب، وفي الدول المتقدمة يسمي Civil Servant وهو ما يصدق علي الموظف الحكومي بشكل عام إياً كان مستواه وموقعه. إن ترجمة هذا الشعار لواقع عملي يعني تقديم خدمة الأمن مع احترام المواطن، الوزير هنا مُطالب بتغيير صورة الشرطة، فقد كان حرق أقسام الشرطة والميل للاعتداء علي من ينتمي للشرطة وليد تاريخ طويل من أداء متعال وفظ رسخ في أذهان الناس وآن له أن ينتهي. يتطلب تغيير صورة الشرطة عملاً شاقاً، ولعلي أستأذن السيد وزير الداخلية في عرض بعض مقترحات أخالها لا تخفي عليه وقد تفيد دراستها في تحقيق هذا الغرض، أما الأول فيتمثل في خلق وتنمية الرضا الوظيفي للعاملين بالوزارة، بدءاً بإعادة صياغة سياسة الأجور والحوافز، واستبدال ساعات العمل المفتوحة بساعات عمل محددة حتي وإن كانت أطول نسبياً من ساعات العمل التقليدية بالحكومة، ويتعين أن تتناسب سياسة الأجور الجديدة مع طبيعة العمل الشاقة نسبياً، والأخطر إذا قورنت بظروف عمل الوظيفة الحكومية التقليدية، فضابط الشرطة أياً كانت رتبته يعمل تحت ضغوط لها شأنها إما بسبب جسامة وخطورة المهام الميدانية وتعلقها بالأرواح والممتلكات وتأثرها بالرأي العام وتأثيرها فيه، حتي لقد قال لي أحد الضباط رفيعي الرتبة في إحدي حلقات التدريب الأمني: »الغلطة عندنا يعني تقعد في البيت«.. أو تجيء الضغوط من ساعات عمل طويلة نسبياً تشمل فترات اليوم بكامله وفي ظروف الحر والبرد والمطر، أو تكون الضغوط بسبب المخاطرة التي تميز كثيراً من العمليات الشرطية الميدانية، وينطبق ذلك بدرجة أو بأخري علي أمناء الشرطة وأفرادها، ويتعين أن تتضمن سياسة الأجور مكافأة إضافية إن استطالت ساعات العمل لتزيد عن تلك المقررة، ويدخل في إطار سياسة الأجور الجديدة تقريب الفوارق بين الأجور في وحدات وزارة الداخلية وعندما يشعر الضابط أو أمين أو فرد الشرطة بأن مرتبه يتناسب مع ظروف عمله ويكفل له حياة شريفة مناسبة، يسهم ذلك في رضائه الوظيفي كسبيل مهم للولاء الوظيفي. أما المحور الثاني لعمل وزير الداخلية فيتمثل في سعيه - بسلوك سياسي - لإقناع الحكومة بعدم تحميل أخطاء الوزارات مع الشعب علي وزارة الداخلية وجعلها العفريت الذي تخوف به الناس، فمهام الوزارة كثيرة وجسيمة، إن تفرغ الوزارة للمهام الأمنية الأصيلة من شأنه الارتفاع بمستوي جودتها، وفي هذا الصدد يمكن البدء بتنفيذ أحكام القضاء بسحب الحرس الجامعي من الكليات، وإعفاء الشرطة من النشاط الخاص بمباحث التموين علي أن تقوم بذلك جهة الاختصاص من خلال مفتش التموين الذي إن رأي مخالفة يحرر محضراً بقسم الشرطة ويحال للنيابة، وينصرف ذلك أيضاً لمباحث الكهرباء من خلال مرور مفتشين بشركات توزيع الكهرباء دورياً وعند اكتشاف مخالفة مثل سرقة التيار يحرر المفتش محضراً بقسم الشرطة، كما يمكن في هذا الصدد إعفاء الشرطة من عملية الانتخابات مع اقتصار دورها علي مجرد التأمين، أما بالنسبة للأمن المركزي فأقترح أن تنحصر مهمته في تأمين المظاهرات وتأمين الممتلكات العامة والخاصة دون إرهاب المتظاهرين والاعتداء عليهم كما حدث في ثورة 25 يناير، هكذا يمكن تركيز العمل الشرطي في جوهره لدواعي الاتقان وترشيد التكاليف. وعملاً علي التخفيف من أعباء ثقيلة وساعات عمل طويلة لضباط وأفراد الشرطة لماذا لا نخطط لزيادة أعداد المقبولين بكلية الشرطة؟.. ولماذا لا نعود للاستعانة بالمدنيين في أعمال شرطية مثل تنظيم المرور »جمعية أصدقاء الشرطة من طلاب المدارس في الصيف« بزي مميز ومرتب مناسب، مما قد يحسن العلاقة بين الشعب والشرطة؟.. ولماذا لا ندرس التوسع في مفهوم الأمن الخاص لتأمين العقارات والمنشآت ومباريات كرة القدم من خلال تحديد معايير فنية لعمل شركات الأمن الخاص وفتح فرص عمل جديدة للشباب في هذا المجال. وهناك محور آخر لا يقل أهمية عما سبق، ويتمثل في تغيير ثقافة أعضاء جهاز الشرطة لتنتقل من ثقافة الاستعلاء علي المواطن الشريف والاستهانة به سواء في أقسام الشرطة أو في الشارع إلي ثقافة الاحترام المتبادل القائمة علي حقوق الإنسان، ويتعين أن يبدأ ذلك من إعداد الطالب في سنوات الدراسة بكلية الشرطة، وقد سبق أن اقترحت في أكثر من ندوة ومؤتمر في مجال الشرطة تطعيم خطة الدراسة بكلية الشرطة بمواد مثل مهارات الإدارة المتقدمة باعتبار أن الضابط مدير وقائد، وعلم النفس والتفاوض باعتباره ساعياً للتعامل مع أنماط شخصية متنوعة لاستخراج الاعتراف دون ضرب أو إهانة، لكن كان الرد أن طالب كلية الشرطة يدرس القانون أساساً حتي يمكنه العمل كمحام عندما يترك خدمة الشرطة، فإن كان الأمر كذلك فلا بأس من إنشاء وتطوير دبلومات للدراسات العليا أو التخطيط لفرق تدريبية تهدف لإنشاء وتعزيز مهارات الاتصال والتفاوض والقيادة وإدارة الوقت والضغوط، والتفكير الابتكاري وإدارة الجودة الشاملة وغيرها من متطلبات جودة الأداء الشرطي، لماذا تقوم منظمات خدمية متعددة مثل البنوك والفنادق وأيضاً أجهزة شرطية بالخارج بتدريب موظفيها علي مهارات التعامل ومعالجة الشكاوي والاعتراضات، ولا تنفذ الشرطة المصرية ذلك؟.. فطالما كان عمل الشرطة لصيقاً بالجمهور فلا أقل من تدريب ضباط وأفراد الشرطة علي مثل هذه المهارات، الأمر الذي يسهم في تحسين صورة الشرطة في أذهان الناس، ومن المهم في هذا الصدد استبدال الضباط الذين عُرف عنهم سوء استخدام النفوذ مع المواطنين بنقلهم لوظائف إدارية. من المهم أيضاً تبني مفهوم الشرطة المجتمعية وذلك بصياغة برامج الأداء الشرطي علي ضوء استلهام توجهات وقيم وتوقعات المجتمع من جهاز الأمن، وذلك بهدف تحقيق ورفع رضاء أطراف المجتمع عن الأداء الشرطي، صحيح أن الأداء الشرطي التقليدي مستمر كما هو في إلغاء طرف أو طرفي معادلة الجريمة »الفرصة والرغبة«.. لكن المهم هو السعي لتحسين صورة الشرطة في أذهان المجتمع بشكل مستمر، هكذا يمكن تحقيق مشاركة الجمهور مع الشرطة بما يغرس الثقة ويعزز فاعلية الأداء الأمني، لماذا لا نسعي لعودة صورة الشرطة كسند للناس وظهير قوي لهم؟.. لماذا لا تعود صورة الشرطة - كما جسدها فيلم »حياة أو موت« أحد أفلامنا القديمة الرائعة - حيث استجابت للصيدلي الذي أخطأ في تحضير الدواء ونجحت في إنقاذ حياة مريض بالبحث عنه وتنبيهه حتي لا يأخذ الدواء السام؟ كذلك أري أن التدريب المستمر هو سبيل مهم للتحسين المستمر، علي أن يخطط التدريب علي أساس علمي من حيث حُسن تحديد الاحتياجات التدريبية وتصميم البرامج والتقييم الموضوعي للتدريب من خلال اختبارات جادة، ومما يساعد علي ذلك أن وزارة الداخلية قد أنشأت صرحاً علمياً وبحثياً كبيراً هو أكاديمية الشرطة التي يمكن أن تُسهم بجهد وتخطيط موضوعيين في تحسين الصورة الذهنية للشرطة، هذا مع الاهتمام بالتخصص في العمل الشرطي، بدلاً من جعل ضابط الشرطة جوكر يعمل في أي موقع بما قد يعني إهداراً لتدريب سابق وخبرة عملية في مجاله، وقد أقترح أيضاً قيام العلاقات العامة بوزارة الداخلية باستقصاء دوري لعينة من جمهور الشرطة في الأقسام وغيرها من وحدات العمل الشرطي بهدف تقييم وتقويم الأداء الشرطي. أستاذ الإدارة - جامعة بنها