بعدما تحركت مصر خطوات هامة على طريق التحول الديمقراطي في اتجاه أهداف ثورة يناير الشعبية لتحقيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والكرامة الإنسانية بإرادة شعبية وبإدارة عسكرية. يدور الجدل والسجال السياسي الساخن في مصر هذه الأيام حول ثلاثة إشكاليات رئيسية هي، لجنة الدستور وكيفية تشكيلها، وانتخابات الرئاسة وسلامة إجرائها، والعلاقة المتأزمة بين البرلمان والحكومة وآفاق حلها. وربما يكتسب موضوع الدستور أهمية خاصة باعتباره الهدف الوطني والثوري الثاني بعد إنجاز الهدف الأول بنجاح تنظيم أول انتخابات برلمانية مصرية حرة بمشاركة شعبية غير مسبوقة، في الطريق للهدف الثالث والأخير بتنظيم الانتخابات الرئاسية، الواردة في خارطة الطريق التي حددها الإعلان الدستوري الحالي لبناء المؤسسات وإرساء قواعد التحول الديمقراطي من الثورة إلى الدولة.. وسبق ذلك تلك الأزمة التي عكست الخلاف بين رؤيتين، الأولى لأقلية نخبوية بأن يكون الدستور أولا،ثم الانتخابات الرئاسية، والبرلمانية، والثانية لأغلبية شعبية أيدت الانتخابات البرلمانية أولا والدستور ثانيا والرئاسية ثالثا وأخيرا وهو ما تضمنه الإعلان الدستوري.. ومنذ ذلك الحين والسجال دائر بين الرؤيتين، بين الأقلية النخبوية والأكثرية الشعبية، بما انعكس أزمة أخرى بين من كانوا بالأمس يقولون بالدستور قبل الرئيس، وعادوا اليوم يقولون الرئيس قبل الدستور! ولما تم تجاوزها بالسير في الخيارين معا وصولا إلى أول يوليو مع انتهاء المرحلة الانتقالية وتسليم الإدارة العسكرية للسلطة إلى الإدارة المدنية المنتخبة.. تفجرت بين الفريقين أزمة جديدة مازالت قائمة حول تشكيل لجنة الدستور الجديد والتي حسمها قرار المحكمة الإدارية بإعادة تشكيلها وفقا لمعايير واشتراطات عامة، وهو ما يستلزم الآن استعراض المقدمات واستخلاص النتائج، بما يصحح بعض الأخطاء ويساعد على الحل. وهنا أشير إلى عدة مقدمات لعلها تشير إلى سلامة خيار المسار الذي حدده الإعلان الدستوري للتحول الديمقراطي، وإلى ضرورة حل الإشكاليات التي تعطل السير فيه بالتوافق السياسي، وصولا إلى انجاز صياغة الدستور، وانتخاب الرئيس الجديد وفق رؤية واضحة للنظام السياسي الجديد. إن كل الدساتير التي نشأت في مصر وحتى اليوم بداية من دستور عام 1923،ومرورا بدستور عام 1930، وعام 1954، وعام 1956، وعام 1958، ونهاية بدستور عام 1971، صاغته لجنة شكلها الحاكم المصري سواء كان الملك كمنحة دون استفتاء الشعب عليه، أو كان الرئيس باسم الشعب مع استفتاء الشعب عليه. والدستور الذي تجرى صياغته الآن هو أول دستور مصري لا يجري تشكيل لجنته من جانب الحاكم، بل من جانب نواب الشعب ويصدر باسم الشعب بعد استفتاء الشعب عليه.. والسؤال هو، أليست تلك خطوة أكثر ديمقراطية مما سبق من تجارب، بأن يتولى الشعب عن طريق نوابه المنتخبين ديمقراطيا، وليس الحاكم، تشكيل لجنة الدستور وصياغته تعبيرا عن إرادته؟ لقد كان أمام المجلس الأعلى للقوات المسلحة أكثر من خيار لتشكيل لجنة الدستور موضوع الأزمة، الأول، بجمعية تأسيسية بالانتخاب الشعبي المباشر، وكانت النتيجة المؤكدة أن تأتي بغالبيتها الكبرى من التيار الإسلامي، وكانت ستضع الدستور وفق رؤيتها، دون قدرة لأي من التيارات العلمانية الليبرالية أو اليسارية للتشكيك في شرعيتها أو غالبيتها، مثلما يجرى الآن! والثاني، أن يقوم المجلس الأعلى باعتباره القائم بأعمال رئيس الجمهورية بتشكيل لجنة الدستور بقرار منه مثلما جرى العرف في كل السوابق التاريخية المصرية، على أن يعرض مشروع الدستور على الشعب للاستفتاء. والثالث، هو ما اتجه المجلس الأعلى إليه بما ضمنه في المادة 60 من الإعلان الدستوري الذي وافق عليه الشعب في الاستفتاء بنسبة 77%، بأن يتولى الشعب وضع دستوره بنفسه عن طريق نوابه المنتخبين من الشعب،الذين أوكلت لهم تلك المادة الدستورية التي صيغت بما لا يقيد البرلمان بإرادة محددة في أن تأتي من البرلمان أومن خارجه، انتخاب الجمعية التأسيسية لإعداد مشروع الدستور لإقراره بإرادة الشعب، وهو ما يبدو الأكثر تقدما في إعداد الدساتير رغم كل الاعتراضات المنطقية.! ورغم أن قرار تشكيل اللجنة كان قرارا برلمانيا صحيحا, إلا أنه ووجه بالاعتراض من الأقلية البرلمانية ومن بعض التيارات والهيئات الهامة لأسباب تبدو وجيهة، وهي تمثيل التيار الإسلامي ذي الغالبية البرلمانية بنسبة تزيد عن نصف أعضاء اللجنة بما يضمن له تغليب رؤيته على باقي التيارات في صياغة الدستور، وهو ما أقر به القضاء الإداري. والآن.. فالاقتراح هو أن يعيد البرلمان المصري المداولة بروح توافقية وبالسير في اتجاهين، الاتفاق على معايير متفق عليها لأعضاء اللجنة ونسب تشكيل التيارات والهيئات والقطاعات الشعبية والخبراء.. والثاني، إصدار قانون بما يتم الاتفاق عليه لانتخاب أعضاء اللجنة،الذين يفضل أن يأتي تمثيلهم جميعا ممن يتقدمون للترشح مباشرة أو ترشحهم هيئاتهم من خارج البرلمان. يحدث هذا في ظل سقف عالٍ من المطالب الشعبية، وسقف منخفض للممكنات الحكومية لتلبية تلك المطالب الفورية والمتنوعة، ومعالجة تراكمات أكثر من ثلاثين عاما من المشاكل والأزمات المزمنة نتيجة الفساد والاستبداد في أقل من عام واحد! وما يتبع ذلك من أزمات اقتصادية وتوترات سياسية واضطرابات أمنية، بعضها داخلي مبرر وبعضها خارجي مقرر! ويضاعف من هذه المشاكل والأزمات غياب عدة ثقافات آن لها أن تكون حاضرة في المشهد المصري السياسي الآن للخروج من كل هذه الأزمات أهمها، ثقافة الحوار على الفواصل المشتركة، وثقافة التوافق على الجوامع المشتركة، وثقافة إدارة الاختلاف بالائتلاف، وثقافة المسئولية الوطنية باحترام الإرادة الشعبية والقواعد القانونية والدستورية. ويترجم ذلك تأكيد السيادة للشعب وتجسيد حقيقة أن الأمة هي مصدر السلطات، وأن تصبح الإرادة الشعبية فوق كل السلطات والأحزاب والأفراد، وتقوم السلطة التشريعية الممثلة للشعب بالتشريع للقوانين والرقابة على أداء السلطة التنفيذية ممثلة في الحكومة التي تستمد مشروعيتها من ثقة نواب الشعب.. في تعاون لا تنازع بين السلطات الثلاث لصالح الوطن والشعب. نقلا عن صحيفة البيان الاماراتية