مصطفى عبيد يُحب الناس صلاح الدين الأيوبى لانتصاره على الصليبيين فى حطين، ولتحريره بيت المقدس سنة 1187م، ويُغالى البعض فى تلك المحبة ليحول الرجل إلى رمز للكرامة والعزة والبطولة. وهكذا لم يكن غريباً للشعراء استدعاء الاسم فى كل زمان يشعرون فيه بالهزيمة حتى تبدلت الصورة الذهنية لدى الناس عن يوسف المُلقب بصلاح الدنيا والدين، فأهملوا قبائحه ومظالمه واعتبروه نموذحاً للحاكم العظيم. على أى حال، فلكل إنسان خيره وشره، لكن يبقى الظلم وجعًا فى حلق البراءة حتى يوم العدل الأكبر عندما ترد الحقوق ويقتص من كل ظالم. وقائع عديدة لصلاح الدين بدا فيها جانب القسوة ظاهراً، غير أن أكبر المظالم هى إقدامه على إعدام المفكر والفيلسوف وعالم الدين السهروردى، دون أن يمنحه حق الدفاع عن نفسه. والقصة تشير إلى أن شهاب الدين عمر بن عبد الله السهروردى، والمولود فى إيران، ارتحل إلى حلب ولم يكن يعرفه أحد فجلس فى إحدى المدارس الدينية، وألقى دروسه الفقهية، وأعجب الناس به لفصاحته واتساع علومه ودرايته بكافة أمور الدين، وعلوم الكلام والفلسفة. ولفت الرجل الأنظار إليه، وبعث بعضهم إليه بملابس فاخرة عندما رأوا ثيابه رثة وتُنبئ عن فقره، لكنه أبى قبولها وقال لهم « لو أردنا الملبوس ما غلبنا عنه». وسمع الظاهر ابن صلاح الدين بالشيخ ومريديه وقيل له إنه ما حاج أحداً فى المنطق أو الفلسفة إلا غلبه، فذهب إليه، وأعجب به وقربه إليه واعتبره إحدى معجزات عصره. وأرسل بعض فقهاء الشام إلى صلاح الدين الأيوبى يحرضونه ضد الرجل ويتهمونه بالزندقة، ولم يلبث ابنه الظاهر أن تلقى رسالة من والده يأمره فيها بقتل السهروردى فورًا ودون نقاش. لا يعرف أحد كيف كان حال الظاهر ابن صلاح الدين عندما تلقى الأمر بقتل الشيخ الذى يحبه ويقربه ويراه صاحب علم وافر، لكنه بلا شك كان فى موضع صعب للغاية. وحاول الظاهر التملص من قرار والده، لكنه كان يعلم أن عيون صلاح الدين وبصاصيه حوله يحسبون كل شىء، فأمر بحبس الرجل أولاً، ثُم أوكل بعد ذلك لأحد القتلة السريين أن يدخل إليه فى محبسه ويخنقه بيديه. وقال مؤرخون إن الظاهر أمر بحبسه فى مكان ما دون طعام أو شراب حتى يموت جوعاً، لكن الرواية الأقرب للمنطق هى قتله خنقاً داخل محبسه، خاصة أن رسول صلاح الدين إلى ابنه كان ينتظر نتيجة تنفيذ ما ورد فى الرسالة. وهكذا مات فيلسوف ومفكر وأديب عظيم وصلتنا بعض كتاباته، ولم يكن قد بلغ الست والثلاثين عامًا من عمره. تلك جريمة لا تمحى، وذنب لا يغتفر، يبقى لصيقًا بمحرر القدس أبد الدهر. وكم من بطل ترفعه كتب التاريخ إلى عليين، وتهوى به أفعال الظلم إلى أسفل سافلين. فاللهم لا تضلنا. [email protected] com