يلقب أبوالفتوح يحيى بن حبش بن أميرك السهروردي، ب"شهاب الدين"، واشتهر بالشيخ المقتول تمييزًا له عن صوفيين آخرين هما: شهاب الدين عمر السهروردي (632ه)، مؤلف كتاب "عوارف المعارف" في التصوف، وصاحب الطريقة السهروردية، أما الآخر فهو أبوالنجيب السهروردي. وفي الشرق الإسلامي نلاحظ غلبة لقب شيخ الإشراق على بقية الألقاب باعتباره يحمل اسم حكمته التي اشتهر بها، حكمة الإشراق، التي أضحت مدرسة فلسفية صوفية متكاملة ما تزال حتى يومنا، هذا لا سيما في الهند وباكستان وإيران. وأبوالفتوح فيلسوف إشراقي، شافعي المذهب، ولد في سهرورد الواقعة شمال غربي إيران، وقرأ كتب الدين والحكمة ونشأ في مراغة وسافر إلى حلب وبغداد، حيث كان مقتله بأمر صلاح الدين، بعد أن نسب البعض إليه فساد المعتقد، ولتوهم صلاح الدين أن السهروردي يفتن ابنه بالكفر والخروج عن الدين، وكان مقتله ب قلعة حلب سنة 586 ه. مع أنه كان من كبار المتصوفة في زمانه، ومن أفقه علماء عصره بأمور الدين والفلسفة والمنطق والحكمة، ويسمى مذهبه الذي عرف به "حكمة الإشراق" وله كتاب بهذا الاسم، ومن كتبه أيضا "رسائل في اعتقادات الحكماء" و"هياكل النور". ولد السهروردي عام 545 - على الأرجح- في بلدة سهرورد، بنزجان في أذربيجان، والذي استمد منها كنيته، بدأ حياته العلمية صغيرا حيث شرع بقراءة القرآن والحديث وقواعد الصرف والنحو، ثم حضر دروس الفقه والأصول والمنطق والفلسفة حتى برع فيها، وهناك تعرف على زميل الدراسة فخرالدين الرازي، وجرت بينهما نقاشات ومباحثات عديدة. تلقى مزيدًا من الثقافات الإسلامية وغيرها، وكان كثير الأسفار، فالتقى علماء وحكماء متصوفة كثيرين، انتهى السفر بالسهروردي إلى الشام، حيث أقام في مدينة حلب ابتداءً من سنة 579 ه، وكان حينها تحت إمرة الظاهر بن صلاح الدين، ونزل في المدرسة الحلوية فباحث فقهاء، وناظر علماء، وظل في المدينة حتى وافتة المنية، وكتب أهم أعماله التي كانت أن تدمر تمامًا لولا تلامذته المخلصين، وكان من أبرز مؤلفاته: "حكمة الإشراق، والمشارع والمطارحات، وهياكل النور، ورسالة مختصرة، والأربعون اسما، والأسماء الإدريسية، وكتاب البصر، والتنقيحات في الأصول، والرقيم القدسي، ورسالة في اعتقاد الحكماء، ورسالة عقل سرخ، والبارقات الإلهية، والرمز المومي". كان من كبار المتصوفة في زمانه ومن أفقه علماء عصره بأمور الدين والفلسفة والمنطق والحكمة. وصفه ابن أبي أصيبعة بقوله: "كان أوحد في العلوم الفقهية والحكمية والأصول الفقهية، مفرط الذكاء، جيد الفطرة، فصيح العبارة، لم يناظر أحدا إلا بزه، ولم يباحث محصلا إلا أربى عليه، وكان علمه أكثر من عقله". وقال عنه الشيخ فخر الدين الرازي: "ما أذكى هذا الشاب وأفصحه، لم أجد أحدا مثله في زماني، إلا أنني أخشى عليه من كثرة تهوره". تأثر السهروردي بفلاسفة اليونان- خاصةً أفلاطون- ثم بالعقائد الفارسية القديمة، وفلسفة زرادشت، وقد مزج هذا كله بالدين الإسلامي وآراء الصوفية المسلمين. وبالتأثر بما كتبه اليونان القدماء، نقل السهروردي إلى المسلمين مذهب "الإشراق"، ويقوم في جملته على القول: "إن مصدر الكون هو النور، وهو يعبر عن الله سبحانه وتعالى بالنور الأعلى، ويصف العوالم بأنها أنوار مستمدة من النور الأول". و"المعرفة الإنسانية في مفهوم الإشراقيين "إلهام" من العالم الأعلى، يصل بواسطة عقول الأفلاك، وهو ما يسمى بالكشف أو الإشراق، أي ظهور الأنوار العقلية بعد تجردها". وبهذه الفكرة، حاول السهروردي تفسير الوجود ونشأة الكون والإنسان، كما أنه حاول إبراز الفلسفة الزرادشتية القديمة من خلال فلسفته النورانية، والتعويل على فكرة النور وإشراق الأنوار لتبديد ظلمة الأجسام والمادة. نظم في العشق الإلهى أبياتًا تقول: "أبدًا تحنّ إليكمُ الأرواحُ ووصالكمْ رَيحانُها والراحُ وقلوبُ أهل وِدادكمْ تشتاقكمْ وإلى لذيذ لقائكمْ ترتاحُ وارحمتا للعاشقين! تكلّفوا سترَ المحبّة، والهوى فضّاحُ بالسرّ إن باحوا تباحُ دماؤهم وكذا دماءُ العاشقين تُباحُ" ويرى السهروردي أن الإنسان يستطيع الوصول إلى الغاية القصوى التي ينشدها الصوفية عامةً، وهي الوصول إلى ما اسماه "عالم القدس"، أي الحضرة الإلهية، عن طريق الرياضة الروحية ومجاهدة النفس، وأنه عند وصوله إلى هذا المقام الأخير السامي، يتلقى من نور الأنوار (الله) المعارف. وقد ذكر السهروردي أنه وصل إلى هذه المرحلة عندما فارق جسده، واتصل بالملكوت الأعلى. لم يكن عصر السهروردي (القرن السادس الهجري/ الثالث عشر الميلادي) عصر تسامح فكري، بل كان عصر صراعات سياسية ومذهبية حادة، وكان حلقة من من حلقات الصراعات الممتدة في القرنين الرابع والخامس الهجريين. نظر الفقهاء والحكام بعين الريبة إلى أفكار السهروردى وأحالوها إلى الدعاوى الباطنية، إلا أن السهروردي كان معتدًا بذاته، واثقًا من علمه، شجاعًا وتحدى الفقهاء في سائر المذاهب، وعجزهم، وصار يكلّمهم كلام من هو أعلى قدرًا منهم، فتعصّبوا عليه، لا سيما أن طموحه كان بلا حدود. وكان الملك الظاهر قد أُعجب بالسهروردي، بل أصبح السهروردي من أصدقائه، ونظرًا لاشتداد الخلاف بين السهروردي والفقهاء، دعاهم الظاهر إلى مناظرة فكرية، وكان من جملة ما دار في المناظرة بين الفقهاء والسهروردي ما يلي: الفقهاء: أنت قلت في تصانيفك إن الله قادر على أن يخلق نبيًا.. وهذا مستحيل. السهروردي: ما حدا لقدرته؟! أليس القادر إذا أراد شيئًا لا يمتنع عليه؟! الفقهاء: بلى. السهروردي: فالله قادر على كل شيء. الفقهاء: إلا على خلق نبي فإنه مستحيل. السهروردي: فهل يستحيل مطلقًا أم لا؟! الفقهاء: كفرت! ويبيّن من هذه المناظرة أن السهروردي فرّق بين النقل والعقل، بين الإمكان التاريخي والإمكان العقلي، فليست هناك استحالة مطلقة تعطل القدرة الإلهية، وليس ثمة اعتراض في الوقت نفسه على صحة النص الديني القاضي بأن النبي محمدًا خاتم الأنبياء، أما الفقهاء فقد تمسّكوا بحرفية النص الديني، وأحسب أنهم كانوا أعجز من التحليق في الآفاق الفكرية والفلسفية التي كان السهروردي ينطلق منها. وبما أن الجرأة كانت طبعًا في السهروردي، وكانت تتفاقم فتصل إلى حد التهور أحيانًا، وقد أشار الشيخ سديد بن رقيقة إلى تلك الخصلة، فذكر: "إن شهاب الدين السهروردي كان يتردد إليه في أوقاته، وبينهما صداقة، وكان الشيخ فخر الدين يقول لنا: ما أذكى هذا الشباب وأفصحه، ولم أجد أحدًا مثله في زماني، إلا أنني أخشى عليه، لكثرة تهوّره واستهتاره وقلة تحفّظه، أن يكون ذلك سببًا لتلفه". وقال فخر الدين المارديني: "فلما فارقنا شهاب الدين السهروردي من الشرق، وتوجّه إلى الشام، أتى إلى حلب، وناظر بها الفقهاء، ولم يجاره أحد، فكثر تشنيعهم عليه، فاستحضره السلطان الملك الظاهر غازي بن الملك الناصر صلاح الدين بن يوسف بن أيوب، واستحضر الأكابر من المدرسين والفقهاء والمتكلمين، ليسمع ما يجري بينهم وبينه من المباحث والكلام، فتكلم معهم بكلام كثير، وبان له فضل عظيم وعلم باهر، وحَسُن موقعه عند الملك الظاهر، وقرّبه، وصار مكينًا عنده، مختصًا به، فازداد تشنيع أولئك عليه، وعملوا محاضر بكفره، وسيّروها إلى دمشق إلى الملك الناصر صلاح الدين، وقالوا: إن بقي هذا فإنه يفسد اعتقاد الملك، وكذلك إن أُطلق فإن يفسد أي ناحية كان بها من البلاد، وزادوا عليه أشياء كثيرة من ذلك". وأفاد ابن أبي أصيبعة في "عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ص 167": " أن الشهاب بحث مع الفقهاء في سائر المذاهب وعجزهم، واستطال على أهل حلب، وصار يكلّمهم كلام من هو أعلى قدرًا منهم، فتعصّبوا عليه، وأفتوا في دمه، حتى قُتل ". وكان صلاح الدين أحوج الناس في ذلك الوقت إلى وحدة الصف في دولته المترامية الأطراف، والتي كانت تخوض مواجهة حامية ضد الفرنج غربًا، وصراعًا خفيًا ضد الزنكيين في الموصل وأطرافها، وضد السلاجقة في الأناضول، بل أحيانًا كانت ثمة خلافات تحت الرماد مع بطانة الخليفة العباسي نفسه في بغداد. وكان الفقهاء والعلماء والمدرسون هم جيشه الضارب في تحقيق تماسك صفه الداخلي، فهم الذين يمسكون الجماهير من خناقها في كل عصر، ويوجّهونها الوجهة التي يريدونها. أخذ صلاح الدين كل هذه المعطيات بعين الاعتبار، وأرسل إلى ولده الملك الظاهر بحلب كتابًا بخط القاضي الفاضل يقول فيه: "إن هذا الشاب السهروردي لا بد من قتله، ولا سبيل أنه يُطلَق، ولا يبقى بوجه من الوجوه". ورغم أن السهروردي بادر إلى إجابة دعوة الظاهر الأيوبي لمناظرة الفقهاء، ورغم أنه أسكتهم بقوة حجته وبراعة منطقه، إلا أن الأمر انتهى به إلى الحكم عليه بالموت، ويروى أن الظاهر الأيوبي خيّره في أمر موته، فاختار السهروردي أن يحبس دون طعام وشراب حتى يهلك، فكان له ما اختار.