تكشف تصريحات رئيس الوزراء حول التعديل الوزاري والتسريبات عما يجري من مشاورات خلف الكواليس، تكشف هذه وتلك عن حالة »ارتباك« كنتيجة طبيعية لحالة الجفاف السياسي التي امتدت لعقود والتي لم تسمح لشخصية مثل الفريق أحمد شفيق رئيس الوزراء بمعرفة جيدة بالشخصيات العامة صاحبة الخبرة في مختلف المجالات، فقد كانت الأضواء في هذه العقود الثلاثة تبتعد كثيراً عن أصحاب الخبرات الحقيقية في مجالات كثيرة خاصة في مجال »الإعلام«. وكشفت التسريبات التي تحدثت عن أسماء رشحها رئيس الوزراء لتولي منصب وزير الإعلام عن هذه الحالة بوضوح - مع كل الاحترام للأسماء التي تناولتها هذه التسريبات. وأخيراً جاء قرار إلغاء منصب وزير الإعلام لينهي حالة الارتباك في التشكيل الوزاري، لكن هذا الوضع الجديد ضاعف حالة الارتباك إذ أصبح علي رئيس الوزراء أن يختار »قيادة عليا« للإعلام الرسمي »الإذاعة والتليفزيون«. وأخشي أن يتصور رئيس الوزراء أنه قد توصل إلي حل للمشكلة العويصة وأن بمقدوره أن يختار لهذا الموقع أية شخصية لديها »القدرة الإدارية« علي تسيير العمل باتحاد الإذاعة والتليفزيون وأن أي شخصية بهذه المواصفات الإدارية ستكون مقبولة مادامت لا تحمل لقب »وزير«؟! لقد أدركت من متابعتي لهذا المشهد أن نظرة رئيس الوزراء للإعلام الرسمي للدولة »الإذاعة والتليفزيون« لا تتجاوز كثيراً نفس النظرة التي كان العهد السابق ينظر بها إلي هذا الإعلام الرسمي باعتباره مجرد »بوق حكومي« مهمته »الدعاية« للحكومة أو في أحسن الأحوال انتظار »توجيهات« الحكومة لتوجيه الخطاب الإعلامي في الاتجاه الذي تريده الحكومة وترضي عنه. وقد يتغير الأمر قليلاً في الاتجاه الذي تريده الحكومة وترضي عنه. وقد يتغير الأمر قليلاً بمعني ألا يكون التركيز الدعائي »لشخص« الحاكم إنما لجهاز الحكم، وفي تصوري فالأمر لا يختلف في كثير أو قليل بل هو مجرد اختلاف هامشي وليس اختلافاً جوهرياً. وإبراء للذمة واتساقاً مع روح ثورة 25 يناير التي تحتم علي كل مواطن أن يبذل النصيحة خالصة لوجه الله والوطن في أي أمر يملك فيه المواطن الخبرة والرؤية، أقدم اجتهاداً حول إدارة المؤسسة الإعلامية الرسمية »اتحاد الإذاعة والتليفزيون«، ولا أدعي أن هذا الاجتهاد هو الصيغة الوحيدة أو المثالية، لكنني أزعم أن خبرة سنوات طويلة تزيد علي نصف قرن في الحقل الإعلامي ممارساً ودارساً ومدرساً وناقداً تجعلني أتصور أن هذا الاجتهاد يمكن أن يكون أساساً لمزيد من الاجتهادات الموضوعية في هذا المجال. فكرة إلغاء وزارة الإعلام، وإحلال »مجلس أمناء« يتمتع باستقلال مادي وإداري عن الحكومة ويكون هذا المجلس هو السلطة الوحيدة التي تملك جميع الصلاحيات بدءاً من رسم السياسات الإعلامية وتحديد وسائل تنفيذ هذه السياسات مروراً بجميع الصلاحيات الإدارية والمالية، هذه الفكرة بدأت في عهد الأستاذ محمد حسنين هيكل وهو في منصب وزير الإعلام. وتم تكليف مؤسسة »اراك« لوضع مشروع قانون إنشاء هذا الكيان الذي أطلق عليه فيما بعد، مجلس أمناء اتحاد الإذاعة والتليفزيون وتم بالفعل إصدار القانون رقم 13 لعام 1999، وكان هذا القانون يمنح مجلس أمناء اتحاد الإذاعة والتليفزيون استقلالاً مطلقاً عن الحكومة باعتبار الإعلام الرسمي إعلاماً يعبر عن »الدولة المصرية« وليس عن الحكومة، وأنه - أي الإعلام الرسمي يجب أن يكون معبراً عن جماهير الشعب وليس عن »سلطة الحكم«. وفي إشارة ذات مغزي تم اختيار الدكتور مصطفي خليل أحد رءوساء الوزارة السابقين رئيساً لمجلس الأمناء، وضم المجلس في عضويته عدداً من الإذاعيين وخبراء الإعلام وبعض الشخصيات العامة. ترك الأستاذ هيكل وزارة الإعلام قبل أن يحصل مجلس الأمناء علي فرصة زمنية معقولة ليرسي دعائم هياكله الإدارية ويبدأ في تغيير نمط الإدارة السابق الذي كان يركز كل شيء في يد وزير الإعلام. انتهت التجربة سريعاً قبل أن تكتمل بالممارسة.. وجاء صفوت الشريف ليعيد كل شيء إلي ما كان عليه من تركيز للسلطة في يد وزير الإعلام والإلغاء العملي ل»مجلس الأمناء« فعلها صفوت الشريف ببساطة، فقد أضاف فقرة صغيرة إلي كل مادة بقانون الاتحاد تجعل تنفيذ قرارات مجلس الأمناء رهناً بموافقة »وزير الإعلام«، وبضربة معلم استعاد صفوت الشريف كل السلطات دون أن يتحمل مسئولية اتخاذ القرار؟! فالقرارات يصدرها مجلس الأمناء ممهورة بتوقيع رئيس مجلس الأمناء، لكنها عملياً قرارات وزير الإعلام، وزاد صفوت الشريف علي ذلك أن بدأ يختار رؤساء مجلس الأمناء من شخصيات أكثرها ليس له علاقة بفنون وعلوم الإعلام، وممن يحسنون تنفيذ توجيهات وتعليمات الوزير. وعاد الإعلام الرسمي إلي سابق عهده آلة دعاية لشخص الحاكم ويقوم علي إدارتها بكل التفاصيل وزير الإعلام. ما ذكرته سابقاً قصدت به أمرين، الأول: المكانة المهمة والخطيرة التي تحتلها مؤسسة الإعلام الرسمي بين باقي مؤسسات الدولة وهي مكانة تحتم اختيار قيادتها العليا بدقة بالغة باعتبارها قيادة مسئولة عن أحد أهم مؤسسات الدولة تأثيراً في الجماهير سلباً وإيجاباً، ولهذا كان اختيار أول رئيس لمجلس الأمناء رئيسا سابقاً لوزراء مصر. الأمر الثاني أن استقلال هذه المؤسسة يضعها في مكانها الطبيعي كمؤسسة من مؤسسات الدولة، ولاؤها الأول والأخير للشعب وليس للحكومة، وبالتالي فإن تبعية هذه المؤسسة بأي صورة من الصور لقيادة حكومية يفقدها صفتها كمؤسسة فوقية ويهبط بها إلي مستوي المؤسسات الحكومية التي تكرس ولاءها لشخص الحاكم. والآن.. إذا أردنا حقاً أن يكون قرار إلغاء منصب وزير الإعلام قراراً يعبر بصدق عن تحول جذري في الإعلام الرسمي ليصبح بحق »إعلاماً قومياً« ولاؤه للشعب وصوته يعبر بصدق عن آمال وآلام الشعب فعلينا أن نعيد لاتحاد الإذاعة والتليفزيون مكانته، الأمر لا يحتاج إلي تعديلات تشريعية بل يحتاج إلي نية صادقة ورغبة حقيقية في هذا التغيير الجوهري. أولاً: يختار رئيس الاتحاد من بين الشخصيات التي تتمتع بدرجة عالية من الثقافة الموسوعية والمشهود لها بالاستقامة والنقاء والقدرة علي وضع ملامح الرؤي الاستراتيجية للرسالة الإعلامية التي يتحمل أمانتها »الإعلام القومي«.. وتكون هذه الشخصية غير قابلة للعزل من أي سلطة تنفيذية. ثانياً: استقلال ميزانية الاتحاد استقلالاً كاملاً عن ميزانية الدولة، وما يحصل عليه الاتحاد من »دعم« من خزانة الدولة لا يحق لأي جهة تنفيذية التدخل في التصرف فيه. ثالثاً: يتم اختيار أعضاء مجلس الأمناء من الشخصيات المشهود لها بالكفاءة المهنية والنزاهة، ولا يقل عدد الإذاعيين في هذا المجلس عن 70٪ من عدد الأعضاء ويتم اختيارهم من بين القيادات السابقة بالإذاعة والتليفزيون، أما باقي الأعضاء فيتم اختيار بعض الشخصيات العامة التي تحظي برضا عام وسمعة حسنة بالإضافة إلي أعضاء بصفتهم وهم »نقيب الصحفيين« و»نقيب المحامين« ونقيب الإذاعيين »عند تشكيل نقابة الإذاعيين - راديو وتليفزيون« وأحد عمداء كليات الإعلام يختاره المجلس الأعلي للجامعات. رابعاً: تحدد اللائحة الداخلية لمجلس الأمناء الحالات التي يسمح فيها لرئيس مجلس الأمناء باتخاذ قرارات لتسيير العمل اليومي، وتكون جميع القرارات صادرة عن المجلس ويشترط أن يحتفظ المجلس بمضابط لجلسات انعقاده وتسجل بها الآراء المختلفة حول الموضوعات المطروحة للنقاش والقرارات التي ينتهي إليها المجلس وأسماء من يعترض أو يتحفظ علي القرارات. خامساً: يشكل المجلس لجاناً فنية لمتابعة الأداء المهني في الإذاعة والتليفزيون وتقدم اللجان تقاريرها للمجلس بشكل دوري. وأود أن أؤكد أن مجرد تعيين أي شخص لملء الفراغ لم ينقذ الإعلام الرسمي من حالة التردي التي يعاني منها، ولن يستطيع شخص مهما بلغت كفاءته أن يمنع موجات الفساد التي تجتاح هذه المؤسسة، ولن يتمكن من تطوير الأداء المهني للرسالة الإعلامية. لقد تصور رئيس الاتحاد الحالي المهندس أسامة الشيخ أن مجرد استضافة بعض رموز المعارضة علي شاشات التليفزيون وموجات الإذاعة يمثل تطوراً خطيراً؟! وأنا أعذر المهندس أسامة الشيخ عندما يفكر بهذه الطريقة فالرجل له مجاله الذي يمكن أن يبدع فيه كمدير إنتاج للأعمال الدرامية وفي حدود الإدارة التنفيذية للإنتاج وليس الإنتاج بالمعني الفني للإنتاج الدرامي الذي يتطلب مهارات وقدراً من الثقافة الموسوعية التي أظن أن المهندس أسامة الشيخ يدعي أنه يتقنها.