فى عام 1952 كانت جماعة الإخوان المسلمين ملء السمع والبصر.. كان الجميع يتوقع لها أن تسيطر علي كل شىء فى البلاد.. فالجماعة كانت تتباهى بأنها عنصر فاعل فى انقلاب العسكر الذى تمت تسميته «ثورة مباركة».. وظلت الجماعة مساندة ومتحالفة مع العسكر فى مواجهة أغلبية الوفد والأحزاب المدنية الأخرى حتى قام جمال عبد الناصر بالتهام الجميع بضربة واحدة فى عام 1954 بحادث المنشية الذى وضع قيادات الإخوان فى السجن وبسببه تم حل الأحزاب ووضع محمد نجيب قيد الإقامة الجبرية وتعثرت مصر ووقعت تحت براثن الإستبداد لما يقرب من 60 عاماً. وقتها قال العسكر إن الجماعة تم حلها لأنها تآمرت على نظام الحكم الجديد..وبعدها أصبحت هذه الجماعة « محظورة» قولاً.. ومسموحاً بها فعلاً عندما يتم الاحتياج لها فى مواجهة الخارج أو ما كان يسمى «قوى الاستعمار» التى تريد بالوطن شراً.. وتعامل جميع الرؤساء السابقين معها بنفس الطريقة «الاستخدام المؤقت» .. فعلها عبد الناصر وبعده السادات ثم مبارك.. فهم لايريدون ترك الحبل على الغارب لجماعة تسمى فى علم السياسة « البديل الممكن» اى القوة السياسية الشبيهة بالنظام التى يمكن لها الاستيلاء على الحكم وتسد فراغ النظام الذى سقط!! وجاءت الثورة التى غيرت وجه الحياة فى مصر.. بعيدة عن العسكر وبدون الإخوان ..ثورة شعبية دعت لها وأدارتهاالقوى المدنية فأطاحت برئيس مستبد جاثم فوق الصدور 30 عاماً لتبدأ جماعة الإخوان عهداً جديداً .. فقد قالت ولأول مرة فى تاريخها إنها طلقت العمل السرى وأنها قررت تكوين حزب سياسى جديد أطلقت عليه اسم « الحرية والعدالة» وقررت خوض كل الانتخابات باسمه وحصدت الأغلبية فى مجلسى الشعب والشورى لتصبح صاحبة الكلمة العليا فى الشارع السياسى.. حدث كل هذا رغم أن الحزب لم يُغضب المجلس العسكرى على الإطلاق ..فرفض الحزب – ومعه الجماعة - المليونيات التى طالبت برحيل المجلس العسكرى، وقال – مع السلفيين - نعم للتعديلات الدستورية التى قالت عنها كل القوى السياسية « لا» ونريد دستوراً جديداً حتى نضع خارطة طريق واضحة للبلاد .. فحصدت « نعم» تصويتاً يتجاوز ال 75% ورغم أن المجلس العسكرى تجاهل هذه النسبة وأصدر إعلاناً دستورياً أضاف وألغى العديد من المواد المستفتى عليها إلا أن الإخوان –ومعهم الحرية والعدالة – لم يعترضا على الإعلان الذى ألغى إرادة الأمة بجرة قلم !! ليقارن الناس بين إخوان 54 وإخوان 2011 ويعود للأفق تحالف الإخوان والعسكر الذى نسفه بيان أصدرته الجماعة مساء أمس الأول قالت فيه انها صاحبة الأغلبية فى تحد واضح للمجلس العسكرى الذى واجههم فى معركة سحب الثقة من حكومة الجنزورى، فكان بياناً يستحق القراءة فى وطن يشتعل بالأحداث ولا يستحق أن تدمره ألاعيب السياسة التى لاتضع الوطن فى المقدمة!! البيان الصادر عن الجماعة قال كلاماً يصدر عنها لأول مرة فى وقائع مضى عليها شهوراً طويلة، ورغم ذلك لم تعلن موقفها تجاهها ولم تقل لنا فى بيانها لم صمتت كل هذا الوقت الطويل حتى تعلن موقفها من قضايا مهمة مثل الاقتراض ونقص المواد الأساسية التى تعرضت لها مصر منذ اشهر قريبة.. والغريب أن البيان صادر باسم جماعة الإخوان المسلمين وليس باسم حزب الحرية والعدالة ليثور التساؤل حول العلاقة الغامضة بين الحزب والجماعة والإشكالية القانونية التى نتعرض لها فى مواجهة هذه العلاقة غير المفهومة وهل يحق لأى حزب من الأحزاب إنشاء ميليشيات أو جماعات تأتمر بأمره ، فحزب الحرية والعدالة يمتلك «جماعة الإخوان» فهل يستطيع الوفد الآن إعادة تشكيل « جماعة القمصان الزرقاء؟» هذا مجرد سؤال حول سبب كتابة بيان سياسى يعرب عن وجهة نظر تيار سياسى يمتلك حزباً رسمياً ولكن البيان يتذيله توقيع جماعة دعوية! نعود للبيان الذى هاجم الوزارة القائمة الآن، وقال عنها إنها «تجرف الأرض أمام الوزارة القادمة بعدها، فهي تسعى حثيثًا في تبديد الأموال الموجودة في الصناديق الخاصة والمقدرة بمائة مليار جنيه حتى تتركها خاويةً على عروشها، وفي ذات الوقت تقتفي أثر الوزارات السابقة لها في التقاعس عن استرداد الأموال المنهوبة والمهربة إلى الخارج لحساب رءوس الفساد وكبار اللصوص، ليس ذلك فحسب بل تتفاوض من أجل قرضٍ من صندوق النقد الدولي مقداره 3.2 مليار دولار، فبعد أن رفض المجلس العسكري الميزانية التي قدَّمها الوزير سمير رضوان وزير المالية في وزارة عصام شرف الأولى لأنها تحتوي على قرضٍ بنفس القيمة بدعوى أننا لا يجوز أن نُحمِّل الأجيال القادمة ديونًا تنوء بها كواهلهم، إذا بهم جميعًا يلهثون من أجل الحصول على القرض مرةً أخرى، إضافةً لافتعال أزماتٍ يومية في البوتاجاز والسولار والبنزين ورغيف الخبز، والإعلان عن تآكل رصيدنا من العملة الأجنبية» ولا أحد يعرف لماذا صمت الإخوان كل هذه الفترة حتى يعلنوا موقفهم من حكومة الجنزورى التى أيدوها ووضعوها فوق الأعناق وسموها حكومة إنقاذ رغم أن هذه الحكومة – نفسها – التى واجهت فى بدايتها هجوماً من كل القوى السياسية إلا الإخوان والحرية والعدالة. وطالب البيان بتنفيذ مطلبه الفورى بإقالة حكومة الجنزورى وتشكيل حكومة إخوانية عندما قال «لا بد أن يتقدم مَن يمثلون الشعب لاستلام السلطة التنفيذية من الحكومة الفاشلة إما بإقالتها عن طريق المجلس العسكري أو استقالتها أو سحب الثقة منها حتى ننقذ ما يمكن إنقاذه من أموال وحسابات قبل تبديدها، وتخفيف المعاناة عن الشعب، والامتناع عن افتعال الأزمات اليومية وتطهير المؤسسات من بقايا الفاسدين، وتنفيذ البرامج العملية العاجلة لإصلاح الأحوال، وتقديم القدوة لأفراد الشعب في الإخلاص والعمل والزهد والنزاهة والشفافية والشرف» لتعود معركة « حكومة الأغلبية للأفق مرة ثانية فى أزمة جديدة بين الحليفين الذين لا نعرف متى يهدآن فى مواجهة بعضهما ومتى يثور كل منهما فى وجه الآخر. وقال البيان «يجب على كل المخلصين للوطن أن يتصدوا لمخطط إجهاض الثورة بالإضرار بمصلحة الوطن لا سيما وقد تسربت الأنباء بأن جهات أجنبية تتعاون مع بعض المجموعات الداخلية لإنشاء حزب مدعوم من هذه الجهات يسعى لإفشال ممثلي الشعب لاسيما في المجال الاقتصادي عن طريق وضع العقبات والعراقيل وإثارة المشكلات والاحتجاجات حتى يصل هذا الحزب إلى السلطة بعد تأليب الرأي العام على الممثلين الشرعيين للشعب» .. هذه الجملة بالذات يمكن وضعها تحت بند التهديد بالفوضى التى يمكن أن تحدث من قبل جماعة الإخوان فى حالة انقضاء شهر العسل بين الجماعة والمجلس العسكرى .. فهى رسالة تقول إن الجماعة رمز للاستقرار – وهذا غير صحيح – وتستخدم نفس طريقة النظام السابق فى التعامل مع الخارج والأمريكان، فقد كان نظام مبارك يوجه رسالة مقتضاها أن نظامه أفضل من وصول الإخوان للحكم ..والآن الإخوان يوجهون رسالة للعسكرى رسالة معناها «نحن أفضل من البرادعى وعيال 6 إبريل». ويواصل البيان رسائله مهدداً العسكرى بشكل صريح فقال «ما إن صدر قرار تشكيل الجمعية التأسيسية بنسبة 50% من داخل البرلمان، و50% من خارجه وبأغلبية 80% من أعضاء مجلسي الشعب والشورى حتى قامت الحملة العلمانية واليسارية بوصف ما حدث بالمصيبة أو الكارثة التي حلت بالدستور- حسب قولهم- وتنادوا نداءات شتى، فبعضهم ادعى أن هذا القرار مخالف للمادة (60) من الإعلان الدستوري، وبعضهم طالب برفع دعاوى أمام محكمة القضاء الإداري، أو المحكمة الدستورية العليا، والمصيبة أن يصدر هذا كل من بعض كبار القانونيين وأساتذة القانون، وهو جهل فاضح بالدستور والقانون واللغة العربية وقواعد التقاضي، ويبدو أنه محاولة للتدليس على العامة بأن هذا القرار غير دستوري، وذهب بعضهم إلى أن المادة (60) من الإعلان الدستوري ليست من المواد التي جرى الاستفتاء عليها في مارس 2011م، وهذا القول مغالطة كبيرة فقد كانت ضمن المواد المستفتى عليها، وزعم بعضهم أن دساتير العالم لم تضعها البرلمانات في حين أن العديد من الدساتير وعلى رأسها الدستور الألماني وضعه البرلمان بكامله، وادعت إحدى الصحف- كذبًا- أن محكمة القضاء الإداري حكمت ببطلان قرار تشكيل الجمعية التأسيسية في حين أن المحكمة حكمت بعدم الاختصاص؛ لأن هذا القرار ليس قرارًا إداريًّا، وطالب بعضهم بتسيير مسيراتٍ والقيام بوقفات احتجاجية على القرار، وقام بعضهم بتحريض المجلس العسكري للتدخل لإلغاء القرار، في حين أن المجلس العسكري لا يملك أية صلاحية للتدخل في هذا الأمر من قريبٍ أو من بعيد، وطالب أحد الأحزاب المجهرية بمقاطعة الجمعية التأسيسية، ورفضت جميع الأحزاب الأخرى الاستجابة لطلبه» هذه هى أخطر فقرات البيان لأن بها اتهامات للقوى السياسية الأخرى بالمغالطة رغم أن بها مغالطة واضحة وصريحة لأن الإخوان لم يتكلموا كلمة واحدة عندما تم إلغاء التعديلات التى تم استفتاء الشعب عليها ورضخوا للإعلان الدستورى الذى ألغى الإرادة الشعبية صدر بقرار منفرد من المجلس العسكرى، وبالتالى فإن الحديث عن الأغلبية التى يجب أن تحترم إرادتها لاتمثل سوى وسيلة ضغط لا أكثر .. ولا تمثل – عند الإخوان -نموذجاً للإرادة السياسية فنفس الإرادة الشعبية التى تريد الجماعة احترامها –الآن – هى نفس الإرادة التى تمت تجاهلها بإصدا إعلان دستورى يلغى نتائج الاستفتاء الذى تم طرحه العام الماضى وهذه ازدواجية تجعل فكرة «مشاركة» كل فئات ومؤسسات المجتمع بنسب عادلة فى كتابة الدستور ضرورة وطنية ملحة...و كتابة الدستور يجب ألا يخضع لمنطق المنافسة السياسية ولكن يجب التغاضى عن منطق الأغلبية والمعارضة فى وضعه.. خلاصة القول.. الخلاف بين الإخوان والعسكر هو نموذج متكرر .. شاهدنا صوراً منه فى كتب التاريخ عام 1954 ونشهد الآن نسخة مكررة ومعدلة طبعة 2012.