مصر وطن عجيب غريب متفرد فى خصائصه شكلاً وموضوعاً، يتمتع من ناحية الموقع «بعبقرية المكان» مثلما قال الراحل جمال حمدان، حيث يقع بين ثلاث قارات، وهو بحكم موقعه كان منذ آلاف السنين ولايزال ملتقى حضارات وثقافات شعوب الدنيا كلها التى احتكت وتصارعت واتفقت واختلفت ثم انصهرت فى بوتقة واحدة على أرضه لتصبح نسيجاً تشابكت خيوطه وخطوطه وتداخلت ألوانه بصورة يصعب إن لم يكن مستحيلاً التعرف من خلالها على هوية أصحاب الأنوال التى أخرجت ذلك النسيج ولا المدارس الفنية التى صاغته بتلك الروعة والاتقان.. أما الجذور التى أنبتت أشجار الأخلاق والقيم التى لا تذبل أبداً فقد تشربت من نبع الأديان السماوية الذى لا يجف منذ مهبط الوحى على رسل تلك الأديان على أرض مصر التى أصبحت بأمر إلهى وطناً عرف التسامح وحسن الجوار، والتواد والتراحم بين سكانه جميعاً الذين يذوبون فيه عشقاً ويبذلون فى سبيله حياتهم دفاعاً عنه ضد أى غاز أو محتل وتختلط دماؤهم فتروى غابات التضحية والفداء بلا حدود ولا حواجز تميز بعضهم عن بعض. لذلك ساءنى وجرح كبريائى الوطنى وشوه إسلامى السمح تلك الأصوات النشاز التى لم تراع حرمة الموت ولا مشاعر الحزن لإخوتنا فى الوطن، والتى تناثرت على شبكات التواصل الاجتماعى ومن خلال الفضائيات مثل البقع والبثور التى تشوه وجه مصر لمن يعتبرون داعية ينبغى أن يتحلوا بأدب الإسلام وسلوكه وتعاليمه فإذا بهم يتخذون من وفاة رمز وطنى جليل مثل البابا شنودة فرصة للمزايدة والدعاية الرخيصة وتسجيل المواقف، حتى لو أدى ذلك كما قلت لإهاجة المشاعر وبث الفرقة وإشعال فتيل الفتنة النائمة، والتى لعن الله صراحة من يشعلها.. آداب الاختلاف جزء أصيل من العقيدة الإسلامية، وحرية الرأى والتعبير ركن قوى فى تلك العقيدة التى لم يثبت أبداً أن سفهت رأياً أو تشنجت فى فرض رأى أو استبدت فى التنكيل أو حتى الإقصاء لمن يختلف فى الرأى ويجاهر به حتى مع الخلفاء الراشدين الذين تربوا فى مدرسة نبينا صلوات الله وسلامه عليه، وكان يحق لأى مسلم أن يقف فى المسجد ليختلف مع الحاكم، بل ويسائل عن القليل من النعمة التى تظهر عليه وعما إذا كانت هناك شبهة فساد فيها، عصور توالت عاش فيها المسلمون مع شركائهم فى الوطن فى سلام ووئام واحترام فى إطار الاعتراف بحقوق الإنسان التى سبق الإسلام فيها كل دساتير العالم ومنظماته بأكثر من ألف وأربعمائة عام. الدين المعاملة والرجال مواقف، وقد كان للراحل الكبير مواقفه التى اجتهد فيها فأصاب وأخطأ، ولكنه حتى وهو يحمى مصالح المصريين ممن اتخذوه رمزاً دينياً وروحياً وقائداً ومعلماً لم ينس لحظة واحدة أنه مصرى تسكن مصر قلبه وعقله وتجرى فى عروقه مجرى الدم، وكم مقالاً كتب ورأياً قيل وأصواتاً ارتفعت تعترض على قرار اتخذه أو موقف أصر عليه، ولكنه أبداً لم يتطاول على أحد أو يسفه رأيه أو يتخذ موقفاً عدائياً منه فى العلن محافظاً على هيبة ووقار المكانة التى يحتلها، كان يتجنب الدخول فى معارك جانبية وفى كثير من الأحيان كان يتدخل لوأد فتنة خطط لها للإيقاع بين المصريين والآن أصبح بين يدى رب سوف نقف أمامه جميعاً يوم الحساب لنحاسب على أعمالنا بميزان يليق بمقامه وهو وحده سبحانه الذى يكافئ ويحاسب ويعاقب ولا راد لقضائه ولا لحكمه. أهم أركان المسئولية الاجتماعية أن نفكر فى وقع ما نقول وما نفعل على كل الناس فى كل وقت، وتلك هى النظرة الشاملة للمعنى النبيل للمسئولية الاجتماعية، وبهذا يكون الالتزام الاجتماعى إيجابياً طوال الوقت يبنى ولا يهدم ويقرب ولا يبعد، التفكير السلبى مدمر ينم عن جهل بالدور الذى يمكن أن يلعبه كل منا كمواطن له حقوق وعليه واجبات، ويصبح انحرافاً وجريمة حين يقترن بتهييج المشاعر وتعبئة النفوس بالكراهية والحقد والتربص وينبغى محاربته والقضاء عليه، ولعل فساد التعليم فى جميع مراحله بمصر وتجريف العقول الذى تزامن مع هذا الفساد قد أنتج أجيالاً من أصحاب العقول المتحجرة والضمائر المغلقة والفكر المتطرف الذى يغذى مفاهيم خاطئة ويجملها ويجعلها تبدو لمعتنقها على أنها الحقيقة المطلقة التى لا حقيقة غيرها وهى فى واقعها انحراف عن الحق وتأصيل لمستقبل ظلامى جاءت ثورة 25 يناير لكى تجعله أكثر إشراقاً وبريقاً وتفاؤلاً وجمالاً.. يا أهل المحروسة، مصر ليست بحاجة الآن لمزيد من تجريف العقول، وإنما لاستنهاض الهمم وتوحد المواقف والحب ووقوف عناصرها ومواطنيها متلاصقين لكى يكونوا حائط صد منيعاً يدافع عن مكتسبات الثورة ويمهد لها الطريق لكى تستكمل باقى أهدافها.. إذا تنازلنا عن ذلك كمصريين سوف يعود نظام مبارك فى ثوب جديد وبمسميات وصيغ مختلفة مدافعاً عن دولة الظلم والخداع والتحالفات وبهلوانات السياسة وبائعى الوهم، وسوف تظل مصر ترزح فى التخلف وتغرق فى المؤامرات وتكبل بقوى الظلام لعقود كثيرة قادمة.