في كتابه الشهير «خريف الغضب» الذي يؤرخ لقصة صعود وسقوط الرئيس الأسبق أنور السادات جعل الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل عنوان أحد فصول الكتاب «خريف البطريرك» وتناول فيه الصدام بين السادات والبابا شنودة الثالث بابا الاسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية والذي أفضى الى تحديد اقامة البابا شنودة في دير وادي النطرون في اعتقالات سبتمبر الشهيرة ثم اغتيال السادات نفسه في حادث المنصة الشهير في 6 أكتوبر 1981، وجاء رحيل البابا شنودة مؤخراً ليكشف العديد من الجوانب الخفية في شخصية البابا ال 17 في تاريخ الكنيسة المصرية. ورغم أن رحيل البابا شنودة كان متوقعاً بحكم عمره الكبير والأمراض التي أصيب بها، الا أن توقيت رحيله الآن وقبل انتخاب رئيس الجمهورية أصاب المسلمين والمسيحيين بالصدمة، باعتباره شخصية وطنية وقبطياً من طراز خاص احتل رأس الكنيسة المصرية في مرحلة من أخطر مراحلها، وكان يحل المشكلات الطائفية بين المسلمين والأقباط في اطار الجماعة الوطنية ورفض مراراً التدخل الأجنبي في الشأن القبطي باعتباره شأنا مصرياً خاصاً. لم يفعل البابا شنودة مثل أقباط آخرين، كالجنرال يعقوب أيام الحملة الفرنسية الذي انحاز الى الفرنسيين على حساب الوطن، ولم يقلد بطرس غالي رئيس الوزراء أيام الاحتلال الانجليزي الذي انحاز الى بريطانيا فاغتاله الشاب محمود الورداني 1910، بل نظر البابا شنودة الى مصلحة مصر أولاً، فأعلى من قيمة المواطنة والوحدة الوطنية باعتبار الأقباط والمسلمين أبناء وطن واحد وركاب سفينة واحدة، وجعل مقولة سكرتير حزب الوفد الأسبق ابن محافظة قنا مكرم عبيد باشا حاضره أمامه في كل تصرفاته وأفعاله «مصر ليست وطنا نعيش فيه.. بل وطن يعيش فينا». لقد تميزت شخصية البابا الراحل بالعديد من الصفات الجميلة بارزها البساطة والهدوء وأثرت عليه دراسة الفلسفة والتاريخ كثيراً فأصبح أكثر ميلاً الى العزلة والتأمل، كما كان في بداية حياته ضابطاً مما جعل شخصيته أكثر انضباطا والتزاما، وكان أول بطريرك يقوم بإنشاء العديد من الأديرة القبطية خارج مصر، اعادة عدد من الأديرية التي اندثرت، وفي عهده زادت الأبراشيات، كما تم انشاء عدد من الكنائس داخل وخارج مصر، وأدى عمله بالصحافة في بداية حياته المهنية الى اتساع دائرة علاقته بالصحفيين والكتاب من شتى المدارس والاتجاهات والأعمار. وكتب الداعية الاسلامي الشيخ يوسف القرضاوي على صفحته على موقع التواصل الاجتماعي «فيس بوك»: «باسمي وباسم الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، نتقدم بخالص عزائنا في وفاة الأنبا شنودة بابا الاسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، رجل الأرثوذكس الأول ورجل الكنيسة الجاد ورجل مصر الوطني، الكاتب، الشاعر، الواعظ، الذي قال إن مصر ليست مجرد وطن نعيش فيه، بل هي وطن يعيش فينا». وأثنى الشيخ القرضاوي، على أعمال البابا شنودة بقوله: «هو الذي كانت له كلمات لا تُنسى في تأييد الشريعة الاسلامية وله مواقف مشكورة في نصرة القضية الفلسطينية، والوقوف ضد زيارة القدس في ظل الاحتلال». بخلاف القرضاوي.. يكشف كل من اقترب من قداسته انه كان شخصية وطنية بامتياز لا يجود الزمان بمثلها إلا مرات قليلة، وهو مفكر مستنير ومثقف من طراز خاص ولا أبالغ إذا قلت إنه من الطراز الأول. ولم يكن بابا العرب فقط مجرد داعية للوحدة الوطنية، بل كان مانعة صواعق حقيقية، أنقذت مصر من حرائق كثيرة خصوصاً مع اندلاع حوادث العنف الطائفي بين المسلمين والأقباط منذ أحداث الزاوية الحمراء في العام 1972 إلى أحداث العامرية بالاسكندرية مؤخراً، وكانت حوادث الطائفية كثيرة ودموية ووصلت الى 200 حادث تقريباً منذ توليه الكرسي البابوي حتى رحيله، ويكفي أنه رفض التدخل الأجنبي كثيراً في الشأن المصري عقب حوادث الفتنة الطائفية وكان يصر على أن هذا شأن مصري خاص بين أبناء الوطن الواحد. وكان البابا شنودة حكيماً يعرف كيفية التصرف في الأنواء العاتية والسيطرة على الأقباط في الداخل والخارج، ولديه في ذات الوقت علاقات قوية بأركان الدولة، لذا تعتبر وفاته خسارة لنا جميعاً مسلمين وأقباطاً ومصريين ووحدة وطنية، ونتمنى أن يخلفه بابا جديد في قوة شخصيته ووطنيته لأن الظروف الحالية لا تحتمل أي مفاجآت، ويكفي البابا شنودة فخراً رفضه التطبيع مع اسرائيل ومنع حج المسيحيين الى بيت المقدس ورفضه لقاء بعض أقباط المهجر الموتورين الذين يسعون لإقامة دولة قبطية في مصر مثل عصمت زقلمة وموريس صادق، فقد أثبت بحق أنه وطني بامتياز. ولم يكن البابا شنودة الراحل بابا الكنيسة الأرثوذكسية رجل دين مسيحياً فقط بل كان شخصية بسيطة وليست معقدة وكان يحب القفشة والنكتة مما أضفى على جلساته الصفاء والألفة والمحبة لكل من جلس معه. رحم الله البابا شنودة ونتمنى أن يواصل البابا الجديد ال 18 السير على نهج شنودة الراحل.