كتب:مجدى سلامة قبل 66 عاماً من اليوم وتحديداً فى صباح يوم 25 يناير 1952 رن تليفون منزل وزير داخلية مصر -وقتها- فؤاد باشا سراج الدين.. وقال المتصل: ألو.. صباح الخير.. ممكن أكلم معالى الوزير فؤاد باشا سراج الدين.. وجاءه الرد: حضرتك مين؟.. أجاب المتصل: أنا اللواء أحمد رائف قائد بلوكات النظام فى الإسماعيلية. مباشرة توجه مدير منزل وزير الداخلية إلى الباشا وأخبره باتصال قائد بلوكات النظام فى الإسماعيلية.. وبخبرته شعر الباشا أن أمراً جللاً قد حدث، وهو ما دفع قائد البلوكات لكى يتصل به فى منزله فى الصباح الباكر من يوم الجمعة. خير يا أحمد.. قال وزير الداخلية سراج الدين لمحدثه على الهاتف. - وبصوت ممزوج بالحماس والتوتر قال اللواء أحمد رائف: يا دولة الباشا.. الإنجليز حاصروا قسم البستان ومبنى المحافظة بالجنود والدبابات، فجر النهارده، والساعة 6 صباحاً وجهوا لنا إنذار وطلبوا منا تسليم سلاح جميع قوات البوليس فى الإسماعيلية والرحيل عن منطقة القناة فوراً.. وأعطونا مهلة لكى نرد على طلبهم. وزير الداخلية: ولو رفضتم، هيعملوا إيه؟ - اللواء أحمد رائف: بيهددوا إنهم هيقتحموا المحافظة وقسم البستان والثكنات ويطلقوا علينا النار. وزير الداخلية: وانتم ناويين على إيه يا أحمد؟ - اللواء أحمد رائف: إحنا فى انتظار أوامرك دولة الباشا؟ وزير الداخلية: موازين القوى عندك إيه يا أحمد؟ - اللواء أحمد رائف: الإنجليز محاصرينا بحوالى 7 آلاف جندى وضابط بريطانى مزودين بالأسلحة، تدعمهم دباباتهم السنتوريون الثقيلة، وعرباتهم المصفحة ومدافع الميدان.. وقوات البوليس اللى فى المحافظة وقسم البستان والثكنات حوالى 880 ضابطاً ومساعداً وأفراد بوليس عاديين، والتسليح بنادق عادية. وزير الداخلية: يعنى حوالى 880 فى مواجهة 7 آلاف مزودين بدبابات ومدافع.. - اللواء أحمد رائف: تمام يا دولة الباشا. وزير الداخلية: وإيه رأيكم انت واللى معاك؟ - اللواء أحمد رائف: يا دولة الباشا مش حنسيب أماكنا ومش هنسلم سلاحنا إلا على جثثنا.. وزير الداخلية: هتقدروا يا أحمد؟ - اللواء أحمد رائف: إن شاء الله يا معالى الوزير. وزير الداخلية: ربنا معاكو يا ابنى. انتهت مكالمة وزير الداخلية مع قائد بلوكات الإسماعيلية، وبعدها أعلن رجال الشرطة فى قسم البستان رفضهم التهديدات الإنجليزية.. وبحسب كتابات المؤرخين، فقد تخيل الإنجليز أن رجال الشرطة المصرية سيخافون على حياتهم، ويتركون سلاحهم ويهربون، حفاظًا على أرواحهم، بمجرد أن يحاصروهم بقوات ضخمة وبدبابات ومدافع.. ولكن ما حدث كان أسطورياً.. خرج اليوزباشى مصطفى رفعت -قائد قوة بلوكات النظام فى قسم البساتين- إلى قوات الإنجليز.. فتصوروا أنه جاء ليعلن الاستسلام، وظلوا يراقبون خطواته الواثقة، منذ خروجه من مبنى قسم الشرطة حتى وصوله إليهم فلما طلب الحديث إلى قائدهم، زادت ثقتهم فى قرب سماع نبأ استسلام البوليس المصرى. ولما وصل الضابط المصرى إلى القائد الإنجليزى قال له بصوت حاسم «إذا أنت لم تأخذ قواتك من حول المبنى.. سنطلق عليكم الرصاص، لأن تلك أرضنا، وأنت ورجالك هم من يجب أن يرحلوا من هنا وليس نحن.. وإذا أردتم المبنى فلن تدخلوه إلا ونحن جثث». كلمات الضابط المصرى أصابت كل من سمعها من الإنجليز بالذهول، فتركهم فى ذهولهم وعاد إلى داخل مبنى قسم البستان، وقرأوا جميعاً الفاتحة ورددوا الشهادتين، بمن فيهم الضباط المسيحيون.. وبدأ الإنجليز العدوان، فأطلقوا قذيفة دبابة دمرت غرفة الاتصال «السويتش» بالمبنى، وكان عامل التليفون، هو أول الشهداء.. وبدأت المعركة بوابل نيرانى مكثف من دبابات ومدافع ورشاشات الإنجليز، وسقط عشرات المصابين من رجال الشرطة واستشهد آخرون. ووسط القتال خرج اليوزباشى مصطفى رفعت مرة أخرى إلى قائد القوات الإنجليزية، فتوقف الإنجليز عن إطلاق النار ظنًا منهم أن رجال الشرطة سيستسلمون، ولكنهم فوجئوا بأن اليوزباشى مصطفى رفعت يطلب استدعاء سيارات الإسعاف لعلاج المصابين وإخلائهم قبل استكمال المعركة، ولكنهم رفضوا واشترطوا خروج الجميع أولاً والاستسلام، وهو ما رفضه اليوزباشى مصطفى رفعت وعاد إلى جنوده لاستكمال معركة الشرف. ومع استمرار الاشتباكات، بدأت الذخيرة فى النفاد من رجال الشرطة المصرية، ولكنهم رفضوا أيضاً مجرد فكرة الاستسلام، وقرروا القتال حتى آخر طلقة، وقرر اليوزباشى مصطفى رفعت الخروج من المبنى لقتل قائد قوات الاحتلال «إكس هام» أملاً منه فى أن يؤدى ذلك إلى فك الحصار وإنقاذ زملائه.. وبالفعل عندما خرج، توقف الضرب كالعادة، ولكنه فوجئ بضابط آخر أعلى رتبة من «إكس هام»، وبمجرد أن رأى هذا الضابط اليوزباشى مصطفى رفعت، أدى له التحية العسكرية، فما كان من اليوزباشى رفعت إلا أن يبادله التحية، وتبين بعد ذلك أن ذلك الضابط هو الجنرال ماتيوس قائد قوات الاحتلال البريطانى فى منطقة القناة بالكامل. وتحدث الجنرال ماتيوس إلى اليوزباشى مصطفى رفعت، وقال له إنهم فعلوا ما عليهم بل أكثر، وأنهم وقفوا ودافعوا عن قسم الشرطة ببطولة لم تحدث من قبل، وأنهم أظهروا مهارة غير عادية باستخدامهم البنادق التى معهم ووقوفهم بها أمام دبابات وأسلحة الجيش البريطانى المتعددة، وأنه لا مفر من وقف المعركة بشرف، فوافق اليوزباشى مصطفى رفعت على ذلك مع الموافقة على شروطه وهى أن يتم نقل المصابين والإتيان بالإسعاف لهم، وأن الجنود التى تخرج من المبنى لن ترفع يديها على رأسها وتخرج بشكل عسكرى يليق بها مع تركهم لأسلحتهم داخل المبنى.. فوافق الجنرال ماتيوس على تلك الشروط وتم خروج قوات الشرطة بشكل يليق بها وهم فى طابور منظم. وسقط فى تلك المعركة 56 شهيداً و73 مصاباً من رجال الشرطة المصرية، فيما قتل 13 إنجليزياً وأصيب 22 آخرون.. ولأن الذكرى لا تبقى إلا لمن يستحقها.. صارت هذه المعركة عيداً.. وصار 25 يناير هو يوم عيد الشرطة المصرية. فى نفس المكان الذى شهد هذه المعركة الخالدة، التقت «الوفد» بشهود عيان شاهدوا بأعينهم ما جرى قبل 6 عقود و6 سنوات بين رجال الشرطة المصرية وقوات الاحتلال الإنجليزى.. أحد هؤلاء الشهود هو المصور الوحيد للمعركة، الذى رصد كل تفاصيلها بكاميرته الخاصة، والشاهد الثانى صاحب تمثالى الصمود والتحدى اللذين شيدهما من شظايا المعارك التى شهدتها الإسماعيلية فى الخمسينات والستينات وحتى معركة أكتوبر.. ورصدت عدسة «الوفد» المقبرة الجماعية التى تجمع الجثامين الطاهرة لشهداء هذه المعركة.