قبل عدة أسابيع نشرت هذا المقال هنا، توقعت فيه موقف الحكومة المصرية من قضية التمويل الأجنبي المتهم فيها 19 أمريكياً، أعيدها للأهمية: كثيرا ما كان يواجه الرئيس السابق حسنى مبارك العديد من الأزمات مع الإدارة الأمريكية، ومع كل أزمة كنا نقرأ في صحف الحكومة بعض التصريحات المصرية العنترية، يفهم منها ضمنا أن الحكومة قد أعلنت الاستقلال التام، بعد أيام وربما ساعات نعود إلى حالة الصفر أو ما دون الصفر، تتراجع الحكومة المصرية ويخنع الرئيس ويركع ويدخل الحظيرة، ليس هذا فقط بل ونقرأ في الصحف خطاب الأسف والندم أو خطاب الركوع، صياغته أقرب لاعتذار العبيد، وتنتهي محاولة التمرد كالعادة بصفعة إهانة للرئيس وحكومته، وتخرج النكات الساخرة من الحواري والمقاهي. هذا الكلام أقوله بمناسبة الأزمة الحالية بين مصر والإدارة الأمريكية، على خلفية إحالة 19 أمريكيا للتحقيق في قضية منظمات المجتمع المدني، حيث اتبعت الحكومة الحالية حتى الآن نفس أسلوب نظام الرئيس مبارك، بدأ الموقف العنتري بتصريحات شحن للجماهير المصرية، أعلن فيها عن معلومات لا نعرف مدى صحتها، قالت وزيرة النظامين فايزة أبوالنجا: «إن التمويل المباشر لم يتجاوز 60 مليون دولار فى الفترة من عام 2006 حتى عام 2011، لكنه وصل إلى 170 مليون دولار بين شهري مارس ونوفمبر من العام الماضي، من بينها 40 مليون دولار أعلنت عنها السفيرة الأمريكية تلقاها «المعهد الجمهوري» و«المعهد الديمقراطي» و«بيت الحرية»، ولكى تثير الوزيرة حفيظة المواطنين وغضبهم أكدت أبوالنجا: أنه تم تحويل 150 مليون دولار من المعونة التي كانت مخصصة للتعليم والإسكان(المصري) للإنفاق على منظمات المجتمع المدني». نعتقد أن معلومات مثل هذه لا نستطيع وصفها سوى بالخطيرة، لأن الوزيرة أبوالنجا تؤكد للشعب المأزوم أن الحكومة الأمريكية تستقطع من المعونة المخصصة لكم وتعطى لبعض الأفراد، وان الأموال التي كانت ستصرف على بناء المدارس والشقق لأولادكم دخلت جيوب بعض أصحاب المنظمات المدنية. الوزيرة أبوالنجا هنا قامت بدورها التحريضي على أكمل وجه، فقد هيأت المواطن وشحنته تجاه التصعيد والمواجهة ضد منظمات المجتمع المدني التي تستولي على أموال الشقق والمدارس، وضد الحكومة الأمريكية التي تضخ الأموال لإجهاض الثورة بأخرى مضادة، أو لكي تعبث وتتدخل في الشأن المصري. بعد هذا الشحن الجماهيري من الطبيعي جدا أن نسمع الدكتور كمال الجنزورى رئيس مجلس الوزراء، وهو يعلن قرار التصدي والتحدي: إن مصر ستطبق القانون في قضية منظمات المجتمع المدني، ولن تتراجع بسبب معونة أو غيرها، ولن تقبل بتدخل أحد، مهما كان، فى أعمال القضاء المصري»، وأمام هذه اللغة الإنشائية ستسعد الجماهير المأزومة أكثر وأكثر عندما يؤكد الجنزورى: «إن مصر لا يمكن أن تركع». من الذي يريد الركوع لغير الله؟، لا أحد بيننا، نعم مصر لن تركع، والشعب المصري سوف يقف خلف حكومته، وسوف يدعمها لكى لا تركع، لكن هل الحكومة المصرية جادة في موقفها هذا؟، هل لن تلتفت للمعونة؟، هل قررت بالفعل تطبيق القانون أم أنها تحاول الحصول على مكاسب من الإدارة الأمريكية؟، هل مصر ستصبح من الدول الناشطة بالفعل في منظمة عدم الانحياز والتبعية والخضوع؟، هل أعضاء المجلس الحاكم العسكري وحكومة الجنزورى لن يركعوا بالفعل؟، ألن نراهم بعد أيام يرفعون خطاب العبيد ويؤكدون عودتهم إلى الحظيرة؟. لا أخفى عليكم أنني أستشعر، ربما شعور أقرب لليقين، أن الحكومة المصرية قبل أن تقوم بهذه المحاولة أعدت خطاب العبيد، وأظن أنها سوف تعلن بعد زيارة الجنرال مارتن ديمبسى» رئيس أركان الجيش الأمريكي للبلاد، عودة المجلس الحاكم العسكري وحكومة الجنزورى إلى الحظيرة بهدوء تام، وما يقوى ظنوننا ما صرح به الكولونيل «ديف لابان» المتحدث باسم رئيس الأركان الأمريكي لصحيفة «الإندبندنت» البريطانية، قال: إن الجنرال «مارتن ديمبسي» رئيس الأركان سوف يجرى محادثات مع قادة مصر حول «الخيارات والعواقب»، بالطبع أدركتم جيدا معنى جملة «الخيارات والعواقب». السؤال الذي يقف كالغصة في الحلق: متى سيعلن المجلس العسكرى وحكومته قرار العودة إلى الحظيرة؟، ومن الذي سيكتب خطاب العبيد؟، وما هى طبيعة سيناريو العودة إلى الحظيرة؟، وهل سنشعر معه بالمهانة؟.