في البداية غضبت من جاري ، لأنه كان يرفع صوت المذياع أو التسجيل وهو يسمع أغنية أم كلثوم "إن مر يوم من غير رؤياك" ، فقد أحسست أنه "رايق" زيادة عن اللزوم ومقضيها أغاني ومكبر الجمجمة وبايع القضية ، بينما أنا غارق لشوشتي في حمل هموم الوطن وأنتقل من مشاهدة قناة إخبارية إلى أخرى حوارية إلى قراءة صحيفة يومية إلى الإنصات إلى إذاعة حماسية ، أنهمك في المناقشات وأجري الحوارات مع زملائي وأصدقائي وأهل بيتي حول ما يمر بمصرنا العزيزة كل يوم ، بل كل ساعة ، من أحداث ساخنة وتطورات غريبة وأوضاع مريبة. صرت لا أنام من الهم والغم على ما يجري في بلادنا ، وأصبحت حزينا كاسف البال ، يطاردني الإحباط ، ويتملكني اليأس ، وأنا أرى مصر تضيع من أيدينا ، فلم تعد هذه مصر التي نعرفها ، بل تحولت إلى شيء آخر غريب ، أقرب إلى المسخ ، كل يوم بل كل لحظة : سرقة وخطف واغتصاب وابتزاز وبلطجة وقطع طرق وإضرابات واعتداءات وإطلاق نار وكساد وركود وفقر ووقف حال وخسائر ومشاكل وقذارة وقمامة وخرائب ولصوص ونشالون ومشاجرات وتخبط سياسي وانفلات أمني وتسيب أخلاقي وفوضى مرورية و.. و.. ، وبعد كل هذا يسمع جاري وهو مستمتع وضاحك هو وأسرته : "إن مر يوم من غير رؤياك ما ينحسبش من عمري" .. يا سلام يا خويا ! وأهل السياسة ، ومعهم أهل الرأي والفكر والإعلام ، في كل واد يهيمون ، ولا يكفون عن الكلام والخناق والجدل والمهاترات والمزايدات ، وكثير مما يقولون يزيد الناس المساكين بلبلة وحيرة وهموما على همومهم ، ونكدا على نكدهم ، ونحن معهم نسمع ونرى فنزداد كآبة ونشتعل إحباطا ونذوب حزنا على ما ابتليت به مصرنا العزيزة ، حتى بدأ كثير من الناس يشك في نفسه وفيمن حوله ويرتاب في عقله وفي كل ما يسمع ويشاهد ، ويحتار كيف يحكم على الثورة ، وعلى الثوار ، وعلى الساسة وعلى المجلس العسكري ، وعلى الداخلية ، وعلى البرلمان ، وعلى الفلول ، وعلى القضاء ، وعلى سجناء طرة ، وعلى مرشحي الرياسة ، وعلى المشايخ ، وعلى الدعاة ، وعلى الأحزاب ، وعلى المنظمات ، والمجتمع المدني ، والجمعيات الحقوقية ، والمشروعات الخيرية ، وعلى البوتاجاز ، وعلى القطارات ، وعلى رغيف العيش ، وعلى العيشة ، واللي عايشينها ! كل هذا وأنت يا جاري تسمع : إن مر يوم من غير رؤياك ، وتستمتع مع أم كلثوم ، وشاري دماغك ومريح نفسك عالآخر ؟ ثم فجأة خطر لي خاطر : مش يمكن دي غلطة عمري ؟! أنني رهنت سعادتي وشقائي وسروري وحزني بما يجري للوطن ، فصرت أصبح وأمسي وأنا على جمر النار ، لأن وطني منذ زمن طويل وهو على جمر النار ؟ أليس من الممكن أن يكون جاري على صواب وأنا على خطأ ؟ لماذا أتهمه ببرود الأعصاب وبيع القضية ، ألا يحتمل أن يكون هو أبعد نظرا وأكثر حكمة ، ويكون قد جرب ما جربت وعانى ما عانيت ، ثم بعد أن وجد نفسه على شفير الهلاك حزنا والموت كمدا بينما الساسة منتعشون والفضائيون مزدهرون والحكام متمتعون بالصحة والعافية ، اكتشف أنه عليه أن يعيش حياته ويرفه عن نفسه حتى يستطيع مواصلة الوجود بما أن الجميع ينكدون علينا ولا ينكدون على أنفسهم أبدا ! والله معاك حق يا أبو أيمن ، عداك العيب يا جاري العزيز ، ما أعظم حكمتك وما أرجح عقلك وما أبعد نظرك ! عفارم عليك يا رجل ! أتعرفون لماذا لم أعد أغضب من جاري ، وقررت أن أحذو حذوه ، بل وأن أحضر الأغنية ذاتها لتشغيلها وسماعها ؟ لأنني تأملت السنة التي مرت منذ قمنا بالثورة وخلعنا الحاكم المستبد فاكتشفت أن ما مر علينا خلال تلك السنة لم يكن 365 يوما ، بل 365 مسخرة إذا جاز التعبير ! وآخرها مسخرة موضوع تمويل المنظمات الذي بدأ بحملة وطنية حماسية سياسية اقتصادية وعظية إعلامية ضد انتهاك السيادة ، ثم انتهى إلى انتهاك فاضح للسيادة : فضيحة ليس لها تسمية مهذبة ! طيب لما حضراتكم مش قد أمريكا ، وبالذات لما تزعل ، ومعروف ان زعلها وحش ، مش كان المفروض يكون هناك تصرف آخر بدل ما تهيجوا الدنيا وتدخلوا القضاء وتخلوا الموضوع يكبر في دماغ الناس ، وشوية شوية كنا حنوقف الإرسال ونذيع مارشات عسكرية ؟! وفي الآخر بقى الإخراج مأساويا مهينا والنهاية قاتمة السواد ، وانضافت مسخرة جديدة إلى سجل المساخر ؟ والله جدع يا أبو أيمن ! وبدأت أخلي رأسي من الهموم وأنصت مستمتعا : انت اللي شاغل البال .. انت انت اللي شاغل البال ثم هجم علي فجأة عقلي وضميري وهما همي الكبير وقسمتي ونصيبي ، ليقولا لي : إنك تناجي الوطن الذي تحاول نسيانه والهروب منه وأنت لا تدري ! وطني .. انت اللي شاغل البال .. وستظل كنت أراك كل يوم .. في نظري جميلا ووضيئا وحرا وعظيما والآن لا أراك وأنت بالذات يا وطني : ان مر يوم من غير رؤياك ما ينحسبش من عمري الآن فقط فهمتك يا أبو أيمن .. فاعذرني ! ---------- بقلم : معتز شكري