حذر منها العلماء، وتنبأ بها الكتاب والأدباء! ولكن - هكذا - الطغاة البغاة - لا ينسلون عن كراسي حكمهم الا بدك عروشهم دكاً دكاً. في القصر الجمهوري، وكانت الوفود - آنذاك - تترى - من كل حدب وصوب، وقد تكوكبت وتجمعت حول الرئيس السابق «محمد حسني مبارك» تزف اليه مشاعرها - المغلفة بالنفاق الآثم، عقب نجاته من مؤامرة اثيوبيا الشهيرة التي تربصت به وترصدت على الأرض الاثيوبية، تبغي مصرعه.. ولو نجحت في تدبيرها لتحول «حسني مبارك» من بعدها الي شهيد تذرف الناس الدموع عليه.. ولكن الله اراد شيئاً آخر حتى لا يتحول الرئيس السابق الى معبود لمصر تدبج فيه اليراعات، القصائد العصماء التي تشيد بذكره وفضله.. فقد اراد الله ان يخرج مبارك من حكم مصر بثورة شعبية غير كل الثورات منزوعاً من دست الحكم الذي تقوقع فيه وتربع عليه بقسر وظلم وطغيان طوال عقود ثلاثة من الزمن كانت من أسوأ العهود واظلمها على مصر بعد أن ظهر المخبوء، وقد كان مطموراً في أديم الأرض. نقول ان الرئيس السابق - عقب - توديعه - لثلاثة من علماء الأزهر الأجلاء - استوقف احدهم - وأحسب - أنه فضيلة الشيخ «محمد الغزالي» رحمة الله عليه، وطلب اليه ان يدعو الله له، لأنه مسئول عن اطعام ثمانين مليوناً من المصريين - حسبما قال -.. وانفجر الشيخ «الغزالي» في وجه الرئيس السابق مغباً، قائلاً له: «لا تقل هذا يا رجل.. أأنت الذي يطعم المصريين، إنك لا تستطيع ان تطعم نفسك، ولا غيرك، انه الله هو الذي يطعم الناس ويطعمك» علت الصفرة وجه مبارك وأربد وجهه وهو كظيم! وإذا زاره فضيلة الشيخ «محمد متولي الشعراوي» مع كوكبة من علماء الأزهر الشريف، وكانت قاعة الاستقبال تموج بجمع جامع ممن جاء يزجي التهنئة إليه- زرافات ووحدانا - وجه العالم الجليل حديثه اليه قائلا: انني يا سيادة الرئيس أقف على عتبة حياتي لأستقبل أجل الله فلن اختم حياتي «بنفاق» ولن أبرز عنتريتي باجتراء ولكن أقول كلمة موجزة: أريد أن تعلموا ان الملك كله بيد الله يؤتيه الله لمن يشاء وينزعه ممن يشاء فلا تآمر على الله لملك ولا كيد على الله لحكم لأنه لن يحكم أحد في ملك الله إلا بمراد الله فإن كان عادلاً نفع بعدله وإن كان جائز ظالماً قبحه الله في نفوس كل الناس وأنا أنصح كل من يجول برأسه أن يكون حاكماً أنصحه.. ألا يطلب الحكم، بل أن يكون مطلوباً إليه، فرسول الله قال: «من طلب الى شىء أعين عليه ومن طلب شيئا وكل إليه» ثم يمم وجهه الى مبارك وأردف قائلا: «يا سيادة الرئيس آخر ما أحب أن أقوله لك، ولعل هذا يكون آخر لقائنا بك، إذا كنت قدرنا فليوفقك الله، وإذا كنا قدرك فليعنك الله على تحملنا. وقبلها بسنوات جد قليلة، وقد نما الى علم الرئيس «أنور السادات» أن الشيخ «المحلاوي» إمام مسجد القائد ابراهيم بالاسكندرية قد أمعن في نقده فأمر السادات بالقبض عليه هو ومن معه من رموز مصر الذين كانوا يعارضون حكمه ويناوئونه من خلال اتفاقية «كامب ديفيد» والزج بهم جميعاً في غياهب الجب، وفي خطبة له بالتلفاز المصري قال الرئيس السادات: «إنه - أي الشيخ المحلاوي - مرمى زي الكلب في السجن؟!»، ولم يتوان الشيخ «الشعراوي» عن ارسال برقية للسادات قال فيها: «يا سيادة الرئيس إن الأزهر لا يخرج كلاباً، ولكنه يخرج علماء أفاضل ودعاة أمجاداً». انتقل الشيخ الشعراوي الى الرفيق الأعلى ومرت السنون بطيئة متثاقلة وتوالت الأيام والنذر تتجمع حتى كونت سحابة سوداء في سماء مصر وهل على مصر يوم الخامس والعشرين من يناير عام 2011 فعمت مصر المظاهرات الصاخبة - بعد تأجج النيران في الصدور - وتجمعت الألوف المؤلفة في ميدان التحرير - ميدان العزة والكرامة - وأحد الميادين الثلاثة التي دخلت التاريخ بالثورة العارمة التي كانت قد تأججت في القلوب مطالبة «مبارك» بأن يرحل، ورحل حاملاً عصا حكمه على كتفه، بعد أن توسد سدة الحكم في مصر زهاء الثلاثين عاماً، غير مأسوف عليه. ولم يكن أحد يدري - ومنهم كاتب هذه السطور - على وجود هذا الكم والكم من الفساد والإفساد في مصر ومع الارهاصات التي أرهص بها بعض كتاب مصر وأدبائها من أن عهد مبارك في طريقه الى الزوال الا أن أحداً لم يكن يصدق ذلك! وكان لابد من قارعة! قارعة تخرج مصر من الظلمات الى النور ضد من سلب العزة واستلب الكرامة.. وانتهب القوت، وأصاب مصر بالقنوط.. فبعد خمول مديد استمر زهاء الثلاثين عاماً حكم مصر بقبضة من حديد.. قبض الله لمصر فتية آمنوا بربهم فزادهم الله ايماناً فانتزعوا كرامة مصر من براثن وحوش ضارية ارادوا ابتلاعها، ومن أيدي طغاة متجبرين لم «يخافوا» ظلماً ولا هضماً وكانت تجارتهم الرابحة في سوق الحكم وسوق الاستغلال «عملتها من المال وبضاعتها - ومن أسف - من الرجال.. استبدلوا الثورة بالثروة.. والنخوة بالشهوة.. والحق بالقوة» وبزغت ثورة شباب 25 يناير بل ثورة الشعب المصري بأكمله فنزعت استارهم وكشفت خبيئتهم فأعادت العزة والفخار الى العباد وأحيت الأمل.. الذي كان قد ولى وغاب. ثورة 25 يناير ثورة فتية نقية بيضاء أحاطها شعب مصر جميعه بخالص الدعاء فمضت في طريقها المرسوم وقدرها المحتوم.. ويا له من قدر؟! اراد الله به خيراً لمصر فبعثها من مرقدها عزيزة الجانب وضاءة الجبين وستظل ان شاء الله هكذا بعد أن عاشت مصر في متاهات الشرود بيد كل شيطان مريد حتى صعقه الموت المبيد بعدما روع الناس بالفتك، والبطش العنيد. لم تكن هذه الثورة التي بهرت العالم كله بسلميتها ونقائها، واصرار شبابها على قهر من ظلموهم وافتأتوا على حقوق وطنهم في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية التي غابت ردحاً طويلاً من الزمن مثل الثورات التي عرفتها أوروبا في القرن الثامن عشر والحركات الليبرالية والقومية في أوروبا في ذلك القرن مثل ثورة اليونان والنمسا وألمانيا وإيطاليا وكذلك ثورات أوروبا الشرقية عام 1989 وثورة أوكرانيا المعروفة بالثورة البرتقالية عام 2004. ولم تكن ثورة الخامس والعشرين من يناير - كذلك - كغيرها من ثورات الشباب التي هبت وتهب رياحها على أوروبا وأمريكا بين الحين والحين، ولم تكن كثورة فرنسا عام 1789 التي قامت من أجل الاخاء والمساواة وخضبت أرض فرنسا بدماء الأبرياء.. ولم تكن كذلك كثورة عرابي أو سعد زغلول أو جمال عبد الناصر فهؤلاء القواد العظام ثاروا من أجل تحرير وطنهم من ربقة الاستعمار الأجنبي؟ بيد أن هذه الثورة العظيمة ثورة 25 يناير اندلعت ضد «الاستعمار الداخلي» الذي أناخ على مصر بكلكله فلم يترك لها حولاً ولا طولاً عبر ليل طويل بطىء الكواكب ألقى بظلاله وظلامه على حاضره ومستقبلها وكاد أن يفقدها ذاكرتها. والذاكرة هي مستودع الفكر الانساني.. وكما قالت المفكرة الانجليزية «إين ودنج» عالمة الفيزياء: «إن الموت يهون أمام فقدان الذاكرة» وكاد اليأس أن يستبد بالمصريين جميعاً الذي أمسوا غير قادرين على اليأس اكثر مما يأسوا.. وانبلج الفجر فمادت الأرض من تحت أقدام الطغاة وكشف الله أمر البغاة الذين عاثوا في أرض مصر نهباً وسلباً وغشاً وطغياناً. وإن كان - التاريخ - قد سجل أن أول ثورة في تاريخ الانسانية قد شب أوارها من مصر عام 2150 قبل الميلاد فقد دون التاريخ «أيضاً» أنها كانت ثورة كما عبر الحكيم الفرعوني «إيبور» «أتت على اليابس والأخضر حتى أضحى كل مصري في هذا الزمان السحيق»، يقول: «ليتني كنت ميتاً؟!» على حين جاءت ثورة 25 يناير 2011 ثورة انسانية أحيت اليابس وجعلت الأخضر يزداد اخضراراً، وأخال أن من في رمسه ينطق ويقول: ليتني كنت حياً لأشهد هذه الثورة التي جاءت لتعلم العالم - كما عبر «أوباما» رئيس الولاياتالمتحدة: كيفية تغيير التاريخ بوسائل سلمية.. فلقد غير المصريون تاريخ بلادهم والعالم أجمع. هنيئا لمصر بثورتها.. ورحمة الله على شهدائنا الأبرار الذين وهبوا حياتهم فداء لبلادهم.. ونصرة لوطنهم. -------- بقلم المستشار/محمد مرشدي بركات