ان تعشق مدينة الاسكندرية وناسها وبحرها، فهذا أمر طبيعي وغواية يشاركك فيها مدمنو رائحة اليود السكندري وفوران الموج في حي الشاطبي، والتسكع ببهجة بين محلات الأحذية والملابس بمحطة الرمل، والانبهار الطفولي بواجهة فندق وندسور التاريخي، وقراءة عناوين الكتب القديمة والروايات المغشوشة والمباعة بنصف ثمنها الاصلي في شارع النبي دانيال. وشعورك الدائم كلما قادتك خطواتك الى حي بحري أنك ستقابل نسوة متشحات بالملاية اللف تعلو وجوهن ابتسامة تضاهي ابتسامة الموناليزا الغامضة كمارسمها الفنان التشكيلي السكندري الكبير محمود سعيد في لوحته الآثيرة « بنات بحري ". الأمر الصعب أن أتخلى وليس غيري من دراويش الاسكندرية عن تلك الرفاهية البصرية والحسية الحميمة لتضاريس الاسكندرية.. تلك المدينة الاستثنائية في حياتي، والتي طالما صدقت نفسي وبدون وعي مني أنني في عصر ما كانت روحي تتلبس أحد أبنائها فعشت فيها أجمل سنوات الحب والطفولة من عمري الذي لا أعرفه، واكتب عن اسكندريتي وليست اسكندرية محمد جبريل وسيف وأدهم وانلي، وسيد درويش وبيرم التونسى والشيخ سلامة حجازي، أو أن أستعين بقصائد الشاعر اليوناني كفافيس والذي كان يسكن في مبنى قديم قابع خلف مسرح سيد درويش لمدة خمسة وعشرين عاماً لم يفارق فيها سكندريته أو اقتبس عبارات لورانس داريل فى رباعيته السكندرية الشهيرة، وجمل اناتول فرانس فى روايته « تاييس». قررت أن اكتب فقط عن بعض من مدينة الاسكندرية وليس كلها كما أراها بعيوني، وأن أفك وبهدوء جعبة محشوة صور عائلية بالابيض والاسود مسروقة من عمر الزمن على شاطئ أبوقير العريق والذي عرفته رؤية العين لأول مرة وأنا طفلة مع أسرتي البسيطة في احدى مباهج الحياة الضئيلة. وفي أعماق بحر أبوقير الهادئ غرق حلم القائد العسكري الأشهر في التاريخ نابليون بونابرت وأسطوله المكون من 13 سفينة حربية تتقدمهم سفينة القيادة اوريال اي الشرق، بتكوين امبراطورية فرنسية في الشرق الاوسط قاعدة انطلاقها مصر منذ أكثر من 200 عام، وقد عثر في منطقة البحر الميت على الكثير من العملات المعدنية والمعدات الحربية والأواني التي كانت تحملها هذه السفن. بالإضافة إلى الكثير من الآثار التي ترجع للعصور اليونانية والرومانية بالإسكندرية، وعلى بعد أربعة كيلو مترات من شاطئه جزيرة نلسون نسبة الى القائد الانجليزي الماكر هوراشيو نيلسون، والذي ألحق عار الهزيمة ببونابرت. الوصول الى شاطئ معبد في حي أبوقير، المعروف بشاطئ الغلابة الحالمين ببحر الاسكندرية وطقس التصييف، يكاد يكون مرثية حزينة قبل ان يكون مشقة سير على الاقدام لمسافة حوالى ربع ساعة كاملة وسط حطام وهياكل سفن صيد وفوق طريق غير ممهد لتصل في النهاية الى الشاطئ الذي يدهشك نظافة مياهه وسكونها الساحر. بابتسامة واسعة يرحب بي عم ياسر صاحب الكافتريا الوحيدة على شاطئ معبد الشعبي والتي ورثها أباً عن جد والمسقوفة بالجريد والخوص. بصوت خفيض كمن يبوح بأسرار عسكرية يقترب مني عم ياسر قائلاً: حفيد نابليون يأتي هنا كل عام ويمكث في حي أبو قير لمدة شهرين ويطلع الى عرض البحر ومعه فريق كامل من الغواصين ويرابط خلف جزيرة نلسون، فهناك غرق أسطول جده نابليون، أسأله: وهل الحكومة المصرية تعرف مايفعله ؟ يجيب بثقة: بالطبع بل لقد أتفق حفيد نابليون وبالمناسبة اسمه باولو على ان يأخذ نسبة الى فرنسا ويعطي الباقي الى الحكومة المصرية. حاولت ان أقنع عم ياسر ان باولو جاللو وهو اسمه بالكامل لايمت بصلة من قريب أو بعيد بالقائد العسكري الشهير نابليون بل هو رئيس البعثة الإيطالية من جامعة تورين،التي قامت بالعمل والبحث في جزيرة نيلسون عام 1998 واكتشفت من خلال البحث 200 قطعة أثرية كبيرة ساهمت بشكل أساسي في فهم حياة وثقافة ساكني الجزيرة القدماء ومن هذه الاكتشافات التي تم اكتشافها الكثير من القطع الآثرية التي ترجع إلى العصر البطالمي وأيضاً اكتشفوا بعض القطع والنقوش والقبور القديمة. سكان الحي العجائز يتذكرون شاطئهم أبوقير حينما تم تصوير اغلب الافلام والمسلسلات أيام زمان على رماله مثل افلام شادية وعماد حمدي ومسلسل الدوامة بطولة نيلي ومحمود ياسين واخيرا مسلسل العراف بطولة النجم عادل امام. وقد كان من أهم قاطني ضاحية أبو قير الأمير «عمر طوسون» احد افراد الاسرة المالكة المصرية، سابقا، وهو اول من غاص للبحث عن أسطول نابليون واهتم بأمر انقاذه عام 1933 و توصل الى نتائج مهمة حول مكونات منطقة غرق الاسطول، وحدد بدقة وجود معبد على بعد 240 متراً من الساحل، يضم 12 عموداً، وعثر على حاجز امواج قديم على بعد 250 متراً، وسبعة حواجز أخرى، احدها مبني من الطوب وسمكه 14 متراً، في المنطقة نفسها التي غرق فيها الأسطول، كما كان الامير عمر طوسون يمتلك إقطاعية ضخمة حول الخليج، تلاشت معالمها وبقيت منطقة سكنية تحمل اسم «طوسون» تخلد ذكرى أمير الإسكندرية، الذي كان له الفضل في الكشف عن آثار أبو قير الغارقة.