الفرار من الموت إلى الموت.. قرار يتخذه شباب فى عمر الزهور بالهجرة على ظهر مراكب الموت ليس طمعا فى تحقيق الثراء السريع، ولكن بحثا عن حياة كريمة سمعوا عنها ممن سبقوهم إلى أرض الأحلام، التى روجت لها الأفلام ووسائل الإعلام فقرروا الهروب من شبح الجوع والفقر والبطالة مستجيرين من الرمضاء بالنار. ويعد قرار الهجرة من أصعب القرارات التى تتخذها الأسرة الريفية، حيث تقدم أعز أبنائها ممن تجد فيه القدرة على تحقيق طموحاتها «قربانا» وتدفع كل ما تملك من أموال بل وتستدين من أجل تحقيق هذا الحلم الزائف. تتصدر محافظ الغربيةالمحافظات التى تكثر فيها الهجرة غير الشرعية ويرجع البعض ذلك إلى كونها محافظة مخنوقة لا تتمتع بوجود فرص عمل كافية مثل نظيراتها من المحافظات الساحلية، ومن أكثر القرى شيوعا فى الهجرة غير الشرعية قرية ميت بدر حلاوة مركز سمنود وقرية كفر كلا الباب مركز السنطة والتى يوجد بها وحدها أكثر من 80 ألف مهاجر فضلا عن عشرات القرى المجاورة مثل قرية ميت هاشم وكفر حجازى. «قصور ضخمة تفوح منها رائحة الموت».. هذا هو الحال داخل قرية ميت بدر حلاوة «باريسالغربية» فوراء كل قصر شُيد على الطراز الفرنسى عشرات القصص المأساوية، فالزائر لتلك القرية للمرة الأولى تبهره فخامة القصور والمبانى والعمارات الشاهقة ولكن بسؤالك عن قصة صاحب أحد تلك القصور تسمع روايات ومآسى يندى لها الجبين ومنها حادثة انفجار الطائرة المصرية القادمة من فرنسا وغرقها فى البحر حيث فقدت تلك القرية 8 من خيرة شبابها فى آن واحد. وقد بدأت ظاهرة سفر أبناء قرية ميت بدر حلاوة لفرنسا منذ عام 1980 حيث يعيش حوالى نصف أبناء القرية فى فرنسا بطرق غير شرعية فمنهم من هاجر إلى فرنسا وكسب المال، ثم عاد ليقيم مشروعات صغيرة فى القرية ومنهم من تزوج من فرنسية وأقام فى فرنسا بشكل دائم ولم يعد من هناك. داخل قرية ميت بدر حلاوة شد انتباهنا أحد القصور الفخمة، فسألنا عن قصة صاحبه لتأتى لنا الإجابة صادمة على لسان امرأة ريفية مسكين صاحبه مسكنوش قضى عمره كله فى الغربة يشتغل ويبعت فلوس وفى الآخر مات فى حادث فى فرنسا، ليس هذا فقط فقد حاول شقيقاه السفر إليه لكن البحر ابتلعهم مثل حال الكثيرين من أهل القرية. فى كل منزل بالقرية ضحية للهجرة غير الشرعية، فسماسرة الموت يستغلون رغبة الشباب فى الهجرة وأحلامهم فى الثراء مثل ذويهم حتى وصل سعر تذكرة الموت 100 ألف جنيه، وهو مبلغ ضخم يتطلب توفيره بيع ممتلكات كثيرة من تلك الأسر والاستدانة، ورغم ارتفاع المستوى المعيشى لأهل تلك القرى فإن مستوى التعليم والمؤهلات أقل من غيرها، فأغلب الأسر تكتفى بشهادة الإعدادية أو الثانوية ويبدأون رحلة البحث عن وسيلة لتسفيرهم لإيطاليا حيث يتم إيداعهم فى ملاجئ وتعليمهم وتسهيل فرص عملهم. ولا يعد المؤهل الدراسى عاملا فى إتمام أى زيجة مثلما هو الحال فى كافة المدن، فنجد هناك طبيبات ومهندسات مرتبطات بشخص غير متعلم أو معه الإعدادية فالعبرة هنا بكونه حاملا ورق أى إقامة أم لا، وكل فتاة فى القرية كل حلمها الارتباط بشخص معه ورق لتتمكن للسفر إلى الخارج والعيش مثل صديقاتها اللاتى ينعمن برغد العيش فى الخارج كما تعتقد. قصة كفاح وشقاء عاشها ضحية الهجرة غير الشرعية.. خالد علام، 45 عاما، من قرية ميت بدر حلاوة عندما قرر الهجرة من أجل لقمة العيش ليقضى أكثر من نصف عمره مغتربا، عرف عن خالد حبه للعمل الخيرى ومساهمته فى كفالة وإعالة الكثير من الفقراء. حياة مأساوية عاشها الضحية خالد نملة بسبب مرض والده، اضطره للسفر معه فى رحلة علاجية حتى توفى منذ سنتين قرر بعدها خالد عدم النزول لبلدته لحين الانتهاء من أوراق الإقامة المؤقتة، والبحث عن لقمة عيش مثل أقرانه وعندما انتهى من تقنين أوضاعه قرر العودة لزيارة إخوته لكن القدر لم يمهله للقائهم وحدثت كارثة سقوط الطائرة. عن الأوضاع المعيشية بالقرية يقول هشام العشرى، عمدة قرية ميت بدر حلاوة: قريتنا أكثر القرى التى دفعت ثمنا باهظا للغربة أو الهجرة الشرعية، صحيح ربما لا تعانى من سوء الأحوال المعيشية مثل كثير من القرى بسبب ارتفاع المستوى المعيشى لأغلب أهلها الذين سافروا للخارج منذ الثمانينيات وحققوا ثروات طائلة كانت وبالا على الأجيال الحالية والتى تضحى بكل غال وثمين من أجل تحقيق حلم السفر إلى الخارج. ويؤكد عمدة القرية أن سوء الأحوال الاقتصادية فى كل دول العالم دفع الكثير من المقيمين فى الخارج للعودة بسبب عدم توافر فرص عمل ورغم ذلك لا يصدق الشباب تلك الروايات ويصرون على المخاطرة والسفر بطرق غير شرعية أملا فى تحقيق حلم الثراء السريع. وعبر «العشرى» عن حزنه من فقدان القرية كل عام لخيرة شبابها قائلا: تعودنا على الألم وعودة فلذات أكبادنا فى أكفان، بل إن بعض الأهالى يحلمون بجثة ذويهم ليواريهم الثرى، مطالبا المسئولين فى الحكومة بسنّ تشريعات تجرم تسهيل الهجرة غير الشرعية وتضرب بيد من حديد على يد سماسرة الموت. من قرية ميت بدر حلاوة إلى قرية كفر كلا الباب، التى تشتهر بهجرة أبنائها إلى إيطاليا ما انعكس على الطابع المعمارى للقرية، حيث تجد أغلب مبانيها مقامة على الطراز الإيطالى، بل إن أسماء المحلات والمقاهى جميعها أسماء إيطالية ورغم ذلك تمتلئ القرية بمئات القصص المأساوية لشباب راح ضحية أحلام زائفة روجها لهم سماسرة الموت. ومازال الحزن مخيما على أهالى قرية ميت هاشم.، مركز سمنود، إثر اختفاء عدد من شباب القرية، كانوا على متن أحد القوارب المتجهة إلى إيطاليا فى هجرة غير شرعية، حيث ساد القلق والخوف بين الأهالى على مصير باقى أبناء القرية المفقودين بعد عودة اثنين منهم وتأكيدهم لخبر غرق المركب فى عرض البحر. يروى محمد جمال، شقيق مصطفى جمال البندارى، أحد الشباب المفقودين، أن شقيقه سافر إلى الإسكندرية يوم 5 أبريل 2016 واتخزنوا ليوم 7 ابريل 2016 وهذا هو اليوم الذى تحرك فيه بصحبة صديقه أحمد حمدى ديبان وكان آخر اتصال منهما الساعة 2:30 صباحا وقالوا هنركب حالا المركب، ومن بعدها انقطع الاتصال. وأضاف محمد جمال: أى حد بيركب المراكب دى لازم يكون حد من أهله ماضى له شيك بمبلغ 25 أو 30 ألفا لكن فى موضوع مصطفى والديه لم يوقعوا على أى أوراق لأنهما كانا رافضين سفره من الأساس وتم عمل محضر أيضا لسيدة مضت ليه الشيك مقابل مبلغ 200 جنيه مصرى وخرجت على ذمة القضية. وأشار إلى أنه التقى اثنين كانا على متن المركب وكانا قد وصلا إلى الشواطئ اليونانية وتم ترحيلهما وأكدا أن المركب انقلب وغرق ثانى يوم من تحركه بسبب الحمولة الزائدة التى تجاوزت ال500 راكب. داخل منزل ريفى مكون من طابقين التقينا والد مصطفى الذى يعيش إلى الآن على أمل أن يكون ابنه قد نجا وما زال على قيد الحياة، يحكى لنا قصة اختفاء فلذة كبده قائلا: كنت ضد سفره لأن العائلة فقدت العام الماضى أكثر من ضحية بسبب الهجرة فى تلك المراكب لكن السماسرة الذين ينتشرون فى كل مكان فى القرية ويتلاعبون بأحلام الشباب وطموحاتهم استطاعوا أن يضحكوا عليه، فأخفى عنا رغبته فى الهجرة بعد أن تيقن من رفضنا الشديد لها خوفا عليه لكنى فوجئت بمكالمة منه تأتينى من مدينة الإسكندرية يودعنى فيها ويطلب منى أن أدعو له وبعدها اختفت أخباره ولم نعلم عن شيئا إلى الآن. أقصى أحلام الحاج جمال هو أن يجد رفات ابنه ويعلم مصيره إذا كان حيا أو ميتا لتهدأ النار فى قلبه، مشيرا إلى أن والدته توفيت حزنا بعد سماعها خبر غرق المركب وعلى متنها 500 شاب. ويطالب الحاج جمال المسئولين بمحاربة الهجرة غير الشرعية والقبض على السماسرة ومحاكمتهم حماية لأرواح الشباب. وتتعدد الروايات و القصص المأساوية لضحايا الهجرة غير الشرعية. ففى قرية سبرباى مركز طنطا التقينا عادل حسن، يعمل عامل بناء ويحكى لنا تجربته مع الهجرة قائلا: سافرت منذ عشر سنوات إلى أمريكا ودفعت أموالا كثيرة وتكبدت العديد من المخاطر، لكنها هانت بمجرد دخولى مدينة الأحلام ثم بدأت رحلة بحثى عن عمل ووجدت صعوبة كبيرة فى البحث عن فرصة عمل مناسبة بسبب عدم امتلاكى للأوراق. ويكمل «عادل» سرد تجربته قائلا: بدأت أفكر فى الحصول على الأوراق والطريق الوحيد لها هو الزواج من أمريكية واتفقت مع سيدة على الزواج مقابل دفع 7 آلاف دولار لها و 20٪ من راتبى كل شهر وبدأنا فى الإجراءات واتصلت على زوجتى فى مصر لتتمكن من تدبير المبلغ فباعت مصوغاتها الذهبية ورهنت منزلنا وعاشت زوجتى وأولادى أياما فى غاية الصعوبة زاد منها قيام تلك السيدة الأمريكية بالنصب علىّ وعمل بلاغ كاذب، تم إيداعى فى السجن لعدة شهور وترحيلى بعدها إلى القاهرة لأعود صفر اليدين محملا بالديون وحتى الآن لم أتمكن من الانتهاء من تسديد كافة الديون. قصة مأساوية أخرى تحكيها ناهد عوض، أم لثلاثة أبناء أيتام، قتل والدهم على يد شريكه فى السكن بفرنسا، تبدأ روايتها بعد أن انخرطت فى نوبة بكاء شديد لاسترجاعها ذكريات غاية فى القسوة والألم قائلة: الغربة كربة، طول عمرى بردد تلك الكلمة ورغم ذلك زوجى كان يحلم بحياة أفضل لأبنائنا فبذل كل ما فى وسعه من مال وجهد للهجرة إلى فرنسا وبدأ رحلة كفاحه مع قدوم أول مولود لى واستمررنا على هذا الحال إلى أن تمكن من الانتهاء من أوراق الإقامة بعد 9 سنوات من الغربة، حينها اعتقدت أن الدنيا ضحكت لى أخيرا وبدأت فى حزم أمتعتى وأمتعة أولادى انتظارا لليوم الموعود. وتذرف ناهد الدموع وهى تكمل مأساتها: ركبت بصحبة أبنائى بعد أن هاتفنى زوجى واطمأن على حال الأولاد ووصلت مطار فرنسا وأنا فى أشد شوق لمقابلة زوجى لكننى لم أجده فى انتظارى حينها اسودت الدنيا فى عينى وأحسست بحدوث شىء مريب لكنى لم أكن أتخيل بشاعته إلى هذا الحد، وظللت فى المطار لساعات طويلة إلى أن ألهمنى الله الاتصال بصديق له والذى جاء ليصطحبنا من المطار إلى مكان السكن، وكانت الفاجعة عندما فتحنا باب السكن ووجدت زوجى جثة هامدة غارقة فى الدماء فى مشهد أثار الفزع والرعب فى قلوب أولادى ولم يمح من ذاكرتهم إلى الآن، مضيفة: لم أكن أتخيل أننى سافرت له بعد صبر كل هذه السنوات لأعود به جثة هامدة بعد كل سنوات التعب والشقاء ولو عاد بى الزمان لأكلت أنا وأولادى عيش حاف ويظل أبوهم على قيد الحياة. من جانبه أكد اللواء أحمد ضيف صقر محافظ الغربية أن الحكومة لم ولن تغض الطرف عن سماسرة الهجرة، وستتم مداهمتهم فى عقر دارهم ولن تتركهم يعبثون بعقول المواطنين الغلابة ويستغلون طيبتهم، مشيرا إلى أن الدولة تهتم حاليا بمحدودى الدخل ونحتاج لصبر ومصر تنهض بأهلها شعبا ووطنا بعيدا عن الأساليب الملتوية وغير الشرعية. وأشار «صقر» إلى أنه تم وضع بروتوكول مع وزارة الهجرة، لاتخاذ الإجراءات التى من شأنها الحد من ظاهرة الهجرة غير الشرعية التى تعتبر واحدة من أكبر الظواهر انتشارا فى المحافظة، ويهدف البروتوكول إلى إنشاء العديد من المشروعات التنموية، مؤكدا أن المحافظة ستعمل بكل طاقتها على تذليل كل المعوقات التى تقف أمام المشروعات لضمان سرعة إنجازها وأن الهدف من المشروع هو خدمة المواطن بالأساس وحمايته من المخاطر التى تلحق به جراء محاولات الهجرة غير الشرعية. وأكد محافظ الغربية أنه ليس ضد الهجرة الآمنة، ولكنه ضد الهجرة غير الشرعية، لأنها تدق ناقوس الخطر حيث قد يقع الشباب المهاجر بطريقة غير شرعية تحت وطأة جماعات فكرية قد تدفعه للانحراف.