دائماً ما أخذتنى العبارة الخاتمة فى مقالات المبدع الدكتور علاء الأسوانى "الديمقراطية هى الحل"، وقد نشأت فى بيت يؤمن بهذا المعنى ويرسّخ فى الضمير هذا المضمون. لكن المدقق فى المشهد الدرامى الذى تعيشه مصر عقب ثورة يناير، سوف يلاحظ أن الذين دعوا إلى الثورة وماتوا وفقدوا أعينهم دونها لم يغنموا من أمر الحكم شيئاً، بل لم يغرموا بمسئولية السلطة التى اختطفتها جماعات بدوية، غزت مصر بأموال نفطية فى عصر التراجع والانحطاط والفقر المدقع الذى تأصل تحت حكم مبارك. ارتقت هذه الجماعات سدة الحكم بأصوات الجماهير وباسم الديمقراطية لتنتزع من الثورة ثوريتها وتمارس حيل التضليل والتشويه ضد معارضيها من أنصار مدنية الدولة، ولتلميع جهود البطش والاستبداد الشرطى لوزارة الداخلية تماماً كما كان يفعل الحزب الوطنى المنحل. لكن الغصة هذه المرة أكبر فى الحلوق، لأن الحزب الوطنى لم يكن وطنياً بل لم يكن حزباً على الإطلاق، فهو عصابة تمارس الجريمة المنظمة تحت سمع وبصر الدولة الفاسدة المفسدة، وقد حكمنا الحزب الوطنى بقوة السلاح، وتحت تهديد القمع المقيم، أما الجماعات البدوية التى أتحدث عنها فقد كان الأحرى بها أن تنحاز إلى الشعب ضد القمع وضد محاولات إجهاض ثورته، ليس فقط لأن الشعب هو الذى أتى بهم إلى البرلمان، لكن لأنهم كانوا فيما سبق أكبر ضحايا هذا القمع والبطش المهين. هل معنى ذلك أن الديمقراطية ليست حلاً لمشكلاتنا المتراكمة منذ يوليو 1952؟ بالطبع لا، فالديمقراطية متى توافرت لها شروط الانتشار والبقاء سوف تؤدى حتماً إلى الفرز، وإلى تولّى من يصلح البلاد بعد أن تُعمِل آثارها الإيجابية فى مختلف الميادين وعلى رأسها ميدان التنمية البشرية والارتقاء بالإنسان. لكن الديمقراطية تظل الحل الأكثر تعقيداً فى المعادلة المصرية، لأن الضرر الذى أصاب الشخصية المصرية على مدار ستين عاماً من التخريب والتجريف المتعمّد، ترك أجيالاً من المصريين نصيبهم من التعليم أقرب إلى الصفر، ناهيك عن نصيبهم من المرض والفقر. هذه الأجيال التى نشأ المتعلّم منها على التلقين والطاعة والتسليم توقفت قدرة عقلها الجمعى على النقد البنّاء واتخاذ القرار الرشيد، وفرّغت أذهانها إلا من تفاهات مسابقات كرة القدم والمسلسلات الهابطة، ويا ليتنا أحرزنا تقدماً فى الرياضة أو الفن، بل ما حدث أننا فقدنا ريادتنا فى كل شئ ليس فقط فى محيطنا الأفرو-آسيوى بل وأيضاً فى محيطنا العربى البائس معظمه. هذا الفراغ المفزع استغله النفطيون لتخزين أفكار ومفاهيم بدوية وهابية جامدة، وليت شعرى هل تدفع مصر بهذا الغزو الثقافى ثمن الغزوات التأديبية التى شنّها محمد على باشا ضد أئمة الوهابية المتطرفين بأمر من الخلافة العثمانية؟. الأغلبية التى تشكلّت فى برلمان ما بعد ثورة يناير فى انتخابات غير مزوّرة تخبرنا بأن التجريف والتجويف الذى مارسه العسكر فى حكمهم لمصر منذ عام 52 وحتى اليوم قد أوقف عمل الديمقراطية فى تولية الأصلح لشئون الحكم والرياسة. لكن الأسوأ من هذا أن الديمقراطية إذ تأتى بهذه العناصر الفاسدة أصبحت فى خطر يتهدد استمرارها الذى نراهن عليه فى فرز الأفضل للحكم ولو على المدى البعيد. هذه المعضلة تنبئنا بأن القوى الليبرالية التى قادت ثورة استثنائية فى الميادين وعبر وسائل تبادل المعلومات مآلها إلى الانهزام، لو أنها وقفت أمام هذا التيار الظلامى البدوى فى تحدٍ ومبارزة. فملايين المصريين أسرى مفاهيم خاطئة للدين ولسلطة المتدين ظاهر الإيمان فى أمور الدين والدنيا معاً، حتى ولو لم يكن نصيب هذا المتدين من الإسلام إلا لحية لا يهذبها وسبحة لا يذكر الله بها!، فأين العقول الناقدة، وأين البصائر النافذة لتعى هذا التظاهر، وتنتقى من الدين أوسطه وأحسنه؟. هل تتوقف إذن محاولات القوى المدنية فى استعادة الثورة والتصدى لمحاولات سرقتها؟ حتماً لا، لكن المواجهة التصعيدية لو أنها اقتصرت على التعامل مع العسكر المغتصب للسلطة لكان الأمر ميسوراً، أما أن تنتقل هذه المواجهة لانتزاع السلطة من القوى المنتخبة ذات الشعبية الجارفة فى الشارع، فهو انتحار محقق، وجهد ضائع أشبه بمحاربة طواحين الهواء، بل ربما يعجّل ذلك من إسقاط الدعوة المدنية فى مصر إلى الأبد، فما الحل إذن؟ الإجابة فى كلمة واحدة: التعليم، فالقوى الليبرالية واليسارية وسائر القوى المدنية عليها أن تكثّف جهودها فى هذا الصعيد، وأن تسعى جاهدة إلى تعليم وتثقيف المصريين بدءاً من الكفور والنجوع والعشوائيات. فتكوين قاعدة كبيرة من المصريين المتعلمين تعليماً جيداً هو الهدف الذى ينبغى أن تنصب عليه الجهود حتى يتمكن الناس من الاختيار، بعد التخلّص من ربقة الجهل والتعتيم. هذه مهمة شاقة طويلة المدى، ربما لا تروق للفكر الثورى السائد فى أوساط الشباب أبطال الثورة، لكنها نظرة واقعية تتفادى الدخول فى معركة خاسرة وتصعيد ربما يقود إلى حرب أهلية، كما أنها تستبقى القلة الناجية من الأحرار المثقفين فى برلمان ما بعد الثورة وفى سائر الميادين كقوى معارضة غير مستأنسة بل تنتزع تدريجياً مقاعد الأغلبية برضا وقبول شعبى، لا بأسلحة المقاطعة والاعتصام والانسحاب. فالطبيعة الوادعة للشعب المصرى تجعل قدرته على دفع فاتورة التغيير محدودة، وتجعل تقبّله لصور الاحتجاج الصاخبة مشوباً بالضيق والتأفف. وبالتالى فإذا أردنا نقل مصر إلى المستقبل فلن تنجح الأقلية فى انتزاع ذلك بالقوة مهما طال بها الأمد، لأن القوة تميل من أسفٍ إلى كفة العسكر الغاصبين، وإلى حلفائهم الظلاميين أعداء الثورة الأصليين، بينما قوة الحق التى يستند إليها الثوّار لا تنتصر من تلقاء نفسها، بل بالاستكثار من الأتباع المخلصين لقيم الحق والعدل والديمقراطية، ولن يكون هذا الاستكثار ممكناً إلا بالتوعية والتعليم. التعليم هو الحل.