هناك أصوات غنائية اختارت دائمًا وأبدًا الأصالة والعراقة لكى ينحازوا لها، رافضين كل لغات الابتذال والهلس، التى سيطرت على الساحة الغنائية فى مصر منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضى. وهى الموجة التى جرفت معها لهذا الانهيار الأخلاقى الذى أطلق عليه غناء العصر اسماء وأصواتا كبيرة، لكن المطرب الكبير محسن فاروق الذى رحل عن عالمنا بعد ظهر الأحد كان النموذج الذى حافظ على تراث وطنه، وكان شديد الأمانة فى نقله لكل الأجيال التى عاصرته أو جاءت بعده، كان تراث الوطن لمحسن فاروق الأرض والعرض لا يسمح لأحد بالعبث به أو التلاعب فى نغمة من نغماته. محسن فاروق ولن أقول الراحل لأنه صوته سيظل معنا نعود إليه كلما أردنا ان نغسل أذننا من التلوث الذى يخرج علينا من الإذاعات والشاشات. لم يكن محسن فاروق مجرد صوت يطربنا فقط، لكنه كان المرجع لكبار نجوم الطرب ولنا كصحفيين نلجأ إليه كلما أردنا أو أراد كبار المطربين التأكد من معلومة فى تراثنا أو عمل غنائى يريد مطرب ما ان يغنيه، كان محسن من أهم حفظة التراث فى عالمنا العربى، والمرجع الأهم، كان مكتبة متنقلة، وكان حريصا كل الحرص كلما وجد عملا من التراث ان يهديه لأصدقائه، كان يسألنا معاك «فلاشتك» نرد ليه يا محسن.. فكان رده عثرت على مجموعة أعمال للشيخ فلان أو المطرب فلان، لم يبخل على أحد يومًا ما بأى أعمل غنائى، وكان حريصا على ان يمنحنا المعلومة الصحيحة، لذلك كان الصوت الجميل فى زمن القبح، لم يكن عصرنا هذا هو عصر محسن فاروق، فهو فنان عاش بيننا بمفاهيم وتقاليد عصر محمد عبدالوهاب والسيدة أم كلثوم والموسيقار رياض السنباطى وفنان الشعب سيد درويش، كان نغمة صحيحة فى زمن النشاز. كنت أرى محسن فاروق دائمًا فى طرقات الأوبرا ومعه مجموعات من الشباب يجلس بهم لينقل لهم فنه وخبرته، يحفظون منه نوادر الأعمال من تراثنا، كان مدرسة متنقلة كما كان مكتبة متنقلة. ساهم محسن فى نبوغ أسماء كثيرة مهمة فى عالم الغناء مروة ناجى ومى فاروق وريهام عبدالحكيم ووائل سامى وعشرات غيرهم. محسن فاروق هذا الصوت الذهبى كان يدافع بشراسة عن هويتنا الغنائية المصرية والعربية فى وقت كان أغلبية المتواجدين على الساحة يعيشون بلغة «كل عيش» و«كبر دماغك هو احنا هنصلح الكون». لم يخش محسن أو يهزمه انتشار الأغانى الهابطة والركيكة، لكن كلما ظهر عمل هابط وانتشر كان يخرج ويعلن رفضه ويعود بك للزمن الجميل حيث الكلمة واللحن والصوت. رحيل محسن فاروق ليس خسارة لمصر فقط، لكنه خسارة لعالمنا العربى، لأنه كان مصدرا للإشعاع الغنائى, ولِمَ لا، وهو كان يمتلك اسرار الغناء العربى فى وقت انحاز فيه اعلامنا الجاهل عن قصد للرقصات وللغة الجسد والعرى، وتجاهل رموز الطرب الذين صمموا على الجهاد من أجل طربنا العربى بينما اعلامنا يجاهد من أجل القذارة. محسن فاروق ورفاقه من كتيبة الأصوات الجادة لم يجدوا من يدعمهم، لأنهم جاءوا فى زمن انحاز فيه الاعلام صحافة وفضائيات لأعمال لا تليق الا بهم كإعلام جاهل، بينما الأصوات الجادة تكافح خلف أسوار الأوبرا لا تجد سوى برامج قليلة تذاع أو تعرض فى أسوأ الفترات عندما يكون الناس نيامًا. لذلك أقول للإعلام انشروا الجهل والفساد والبغاء عبر قنواتكم، انشروا أغانى المرجيحة والمهرجانات لأنها تليق بكم وبقنواتكم، فهذه الأعمال تشبه قنواتكم وبرامجكم التافهة. محسن فاروق كان سفيرًا فوق العادة لمصر، قام بالغناء فى كل الدول العربية بلا استثناء، كما غنى فى دول أوروبية ولن أنسى شهادة المغنى العالمى الفرنسى انريكو ماسياس فى صوت محسن فاروق عندما التقيته فى أحد المهرجانات الدولية وفوجئت به مبهورًا بصوت محسن فاروق، وكان يريد ان يغنى معه دويتو، وعندما نقلت الأمر لمحسن لم أجده مندهشًا لأنه كان قد التقى به فى معهد العالم العربى فى باريس ونقل له عشقه لصوته بعد ان استمع له فى أحد حفلاته فى معهد العالم العربى. محسن فاروق كان حاضرًا دائمًا فى المهرجانات الخاصة بالموسيقى العربية، وكان ضيوف المهرجان دائمًا ما يسألون عنه وعن حفلاته، ولِمَ لا، وهو من أعظم الأصوات التى غنت للموسيقار محمد عبدالوهاب وفنان الشعب سيد درويش وكذلك أعمال رياض السنباطى، وكان يختار لهم أصعب الأعمال. محسن كان ينادى حتى بح صوته بضرورة احياء القوالب الغنائية العربية التى بدأت تندثر من عالمنا لعربى بعد ان وجد زحفًا من الغناء الهابط الممسوخ والمنسوخ من الغناء الغربى، وفعلا نحن الآن نمتلك مجموعة من مرتزقة الفن أطلقوا على أنفسهم ملحنين ومطربين، وهو الأمر الذى أصاب جموع الموهوبين بالإحباط، خاصة ان الدولة والاعلام تخليا عن أصحاب المواهب بدرجة جعلتهم يعيشون وهم فى حكم الأموات، بعد ان تخلى عنهم الجميع، نعم محسن فاروق مؤسس فرقة أساتذة الطرب وأقدم عضو فى فرقة عبدالحليم نويرة للموسيقى العربية وحافظ التراث الأول. رحل لكنه سيبقى أستاذ الغناء وأسطى الطرب، نعود إلى صوته كلما بحثنا عن النغمة الصحيحة.