جلس يتناول فطوره علي أحد الأرصفة بأحد أحياء مدينة 6 أكتوبر الراقية، ملامحه لا تنتمي لهذا المكان، هى أشبه بتلك الأرض الطينية هناك في الريف الآخذ في الاندثار، بالغيطان التي يشق الزرع الأخضر حياة بين مسامها، قسمات وجهه تنتمي بقوة لمصر، تنطق بالأصالة المتشبعة بالهموم، بالجذور المتشبثة بالفروع والثمار تهبها الحياة لتبقي، يتناول لقيمات بهدوء بينما تبحث عيناه في المارة عن شيء ما. تجد نفسك مدينا للرجل بألف اعتذار إذا حسبته ينتظر احسانك ومددت يدك بما تجود لتعطيه، لتجد الرد المفاجئ: - أنا لست متسولا.. أنا هنا أبحث عن عمل وعلي موعد مع احد أصحاب الفيلات لأتسلم وظيفتي؟ وما هي وظيفتك؟ - أنا غفير. ومن أين أتيت؟ - من سخا محافظة كفر الشيخ. .. وهل هذه مهنتك في بلدك أيضا؟ - لا أنا كنت صاحب أرض «قطعة صغيرة» كنت أزرعها وآكل من خيرها وربيت منها أبنائي بنات وشبان «زي الفل». ولماذا لا يساعدونك؟ - من قال ذلك؟ بناتي بيساعدوني وكانوا عاملين لي شهرية لكن أنا أرفضها وأريد أن أعيش وأموت دون أن أمد يدي لأحد.. أنا عمري 80 سنة ربيت فيها أساتذة جامعة!!! هنا اندهشت وطلبت منه أن يعيد ما قال.. تقصد مين بأساتذة جامعة؟؟ - أخرج الرجل تليفونا صغيرا من جيبه وأخذ يقلب فيه ويريني أرقام الدكتورة «....» واختها الدكتورة «....» في الجامعة، لمح الرجل علامات الدهشة وعدم التصديق في عيني وكلماتي فقال: والله بناتي أساتذة في الجامعات وأراني أسماءهن وواحدة مديرة مدرسة ثانوي بإحدي المحافظات. ورجاني الا أذكر أسماءهن حفاظا علي مراكزهن وقال: بناتي يفتخرن بي ولا يتضررن من كوني غفيرا أو "رجل غلبان"، بل العكس دائما يعترفن بفضلي لأني ذقت المر أنا وأمهن رحمها الله في تربيتهن لكني أعلم أن الكشف عن وجودي قد يضر بوظائفهن. لاحظت أن عم «سالم» يتمتع بثقة وثبات شديدين إلا أن الحزن بدأ يتسرب إلي نبرة صوته عندما ذكر أبناؤه الشباب وقال هم لا يسألون عني وكل واحد في حاله. وانا أيضا اخترت أن اعيش بعيدا عن الجميع واواصل عملي لأعيش ولا انتظر إحسانا من احد، لكن الحياة صعبة وانا رجل مريض واشتري علاجا ب500 جنيه شهريا وصرت وحيدا بعد وفاة زوجتي ورفيقة كفاحي منذ أربع سنوات فتركت بلدنا وجئت الي هنا حيث طلبني رجل ميسور لحراسة فيلته وأعيش دون حاجة لأحد ومن وقت لآخر اتصل ببناتي ويتصلن بي للاطمئنان والحمد لله مش طالب غير الستر والصحة ولا أريد أن يشير الناس ويقولوا أبو أستاذة الجامعة لأني قمت بواجبي وبناتي أيضا قمن بواجبهن وزيادة. وهكذا يصبح عم سالم حلقة في مسلسل يحظي بأعلي نسبة «انصات وتفكير ومتابعة واعجاب» هذه الايام، مسلسل يروي حكايات نجاح لأبطال يصنعون ما يشبه المعجزات في صمت ثم يظهرون فجأة فيدهشون الجميع ويصبحون حديث الصباح والمساء في بلدنا المهموم بالإرهاب ولهيب الأسعار، والفساد.. والسؤال الحائر: «مصر رايحة لفين»؟؟ تركت الرجل وانا أفكر في قصة مريم عروس الثانوية العامة وحديث مصر كلها هذه الأيام ليس لأنها تفوقت علي 480 ألفا و914 طالبا تقدموا لامتحان اتمام الشهادة الثانوية ولكن لأنها ابنة «حارس عقار» بسيط تحدت ظروفا قد يراها البعض دافعا للفشل، بينما نسجت هي بأناملها الرقيقة وعقلها الذي يزن «مليون عقل» قصة كفاح ونجاح تدرس لأجيال، مريم ليست وحدها بطلة قصة حديث الساعة لكن أبيها وأمها أيضا شريكان أصليان في تلك الملحمة البطولية التي تشبه بقعة ضوء في عتمة يصنعها المتشائمون، وطاقة النور لمن يريد أن يتفاءل.