بأنامل رقيقة وحركات رشيقة يداعبون الخيط بين أيديهم ويمررونه عبر النول بسلاسة ويطرقون عليه برفق وحدة في ذات الوقت، يتعاملون معه بحب وإحساس، ظلوا على مدار 30 عامًا منذ طفولتهم والخيط والنول صديقهم الصدوق، يتواعدون معه وقت اشتياقهم له فلا يجمعهم به موعد ثابت فيتركون الحنين يحدد اللقاء، إنهم الفنانون من فلاحين وفلاحات مركز فنون ويصا واصف بالحرانية. خيالهم مصدر إلهامهم فحين يلمسون الخيط يحولونه من مجرد خيوط صماء للوحة فنية ذات ذوق عالٍ ورفيع، ألوانها مبهجة تحمل رسوماتها قصة تنطق بالحياة. الصبر والسعادة أجمع الفلاحون والفلاحات بالمركز، أنهم يعملون بحرية ويرسمون اللوحة بخيالهم فقط ثم يطبقونها بمهارة، مؤكدين أنهم اكتسبوا صفة الصبر وأصبح لديهم اللمسة الفنية والذوق العالي الرفيع من النول. وقال الفلاحون، إن الجيل الصاعد ليس لديه الصبر الكافي لتعلم النول لأنه يستغرق وقتا طويلا وهم يحبون الحياة السريعة، فضلًا عن إغراقهم في التكنولوجيا والانترنت الذي حجبهم عن حب الأعمال القديمة اليدوية. وأعربوا عن سعادتهم لسفرهم مع أعمالهم دول العالم المختلفة من السويد ولندن وبريطانيا وإنجلترا وإسبانيا وغيرها من الدول الأجنبية، وما يلقونه من نظرة احترام واندهاش تسكن أعين الأجانب من كونهم فلاحين مصريين بسطاء يصاحبها نظرة انبهار واستحسان لأعمالهم الفنية الرائعة. نفسي اتكرم في بلدي "رضا أحمد" من مواليد 1964، جاءت المركز منذ بلوغها سن العاشرة، تعلمت كيف تمسك الخيط ثم أبحرت بخيالها بعيدًا وقريبًا وجسدت غير المرئي بهذا الخيال في لوحات حية. وامتنت "أحمد" للمركز بعد أن تبنوها منذ طفولتها وزرعوا بداخلها الإحساس والذوق العالي، قائلة:"كنا بنعد الخيط في الأول وبعدين بقى بالإحساس نعرف من غير عد، وأحلى حاجة في الشغل هنا الحرية وقت ما بخلص حاجتي في بيتي باجي أو وقت ما احب، وكمان المكسب بتاعه مكفيني والحمدلله". "انبسطت جدًا لما شفت نظرة الأجانب للمصريات وإزاي بقوا بيشوفونا وافتخروا بينا، بس كان نفسي اتكرم في بلدي طبعًا هتفرق معايا" هكذا تمنت الفلاحة المصرية. نجلاء والنول ناداها الحنين بعد أن غابت 7 سنوات عن النول لتتزوج وتنجب أطفال وبعد أن استقرت بحياتها الأسرية، عادت مرة أخرى لهوايتها وحرفتها التي ورثتها من والدتها منذ الصغر، فلم يغلق المركز ابوابه أمامها استقبلها وخصص لها مكانا تأتي له وقت ما تحب وتبدع برسم اللوحات الفنية التي قد تستمر لسنين وشهور. ترسم نجلاء فاروق السيدة الثلاثينية، الطبيعة وتجملها بألوانها الزاهية وتخرج طاقتها في اللوحة، كما أن العائد المادي يساعدها بشكل جيد فتشعر أنها ترسم وتتقاضى على موهبتها ما تحتاجه. 3 سنوات والنصف لوصف مصر ونلتقي أقدم فنان بالمركز وهو عم "علي سليم" ذلك الرجل الستيني، الذي جاء مع أخته منذ نعومة أظافره وهو بالسنوات الأولى من عمره، ليكون من الجيل الأول الذي تتلمذ على يد المهندس رمسيس واصف، وشرب فن النول بمهارة فائقة جعلته يخلق شخصيات وحياة كاملة على النول. خياله الخصب ونظرته الفنية وسيلتان يستخدمهما عم سليم ليبث الروح في الخيط ويجسد به كل ما يراه حوله، ليصبح أمهر فناني النول بالمركز، له أعمال فنية بأكبر متاحف العالم وبأهم المناطق، كما أنه سافر مع صحيفة "ديلي ميل البريطانية" وظل ما يقرب من شهر هناك لعرض أعماله الفنية. "3 سنوات والنصف" هو العمر الذي استغرقته إحدى لوحات عم سليم، التي سجل فيها 16 مكانًا في مصر الآثرية ومتاحفها والنيل، ولكي يستطيع أن يسرح بخياله للتعبير عن تلك الأماكن، قال:" أخدتني مدام ويصا واصف رحلة من الإسكندرية حتى أسوان لأرى طبيعة مصر الخلابة وأماكنها الآثرية العريقة لكي أستطيع وصف اللي شوفته وأرسمه على اللوحة". يوم من عمر الكون "الحواديت" كانت مصدر إلهام آخر للفنان المسن، فكانت مدام ويصا تحكي له قصصا عن مصر وطبيعتها والآلهة قديمًا وغيرها من القصص، ليخرج أجمل اللوحات، ومن أهم تلك اللوحات واحدة بعنوان "يوم من عمر الكون"، وهي تحكي مصر منذ بزوغ الفجر وبداية حياة البشر والطير حتى سكون الليل، قائلًا:" كانت 8 متر وكان عندي وقتها حوالي 30 سنة، المهم في النول أن تكون نفسيتك مرتاحة ومزاجك رايق وماديا مبسوط وهي عائدها حلو علشان كده هي مهنتي الأساسية اللي فتحت بيتي وربيت عيالي منها".