صديقنا الشاعر الكبير فاروق جويدة استنكر في مقاله اليومي بجريدة الأهرام- الاثنين 30 يناير- ان تستضيف إحدي الفضائيات رجلا «يتهم نجيب محفوظ بأن كتاباته تروج للانحلال والدعارة».. ثم ماذا «يعني أن أشاهد داعية يقول عن المسيحيين إنهم كفار»، ثم ماذا يعني أن مرشحا في الانتخابات تنشر له الصحف «انه سيحارب العلمانية كما حاربنا التتار والصليبيين»، فهذه الشعارات والآراء التي تفتقد الحكمة والوعي لا ينبغي أن يسمعها أحد، والإعلام المصري الآن يقدم علي شاشته آلاف النكرات ممن يفتون في كل شىء ويتحدثون عن أي شىء كما يقول جويدة، وأخطر ما يراه الشاعر الكبير أن «أخطر ما في هذه الأحاديث أننا أمام شخصيات تبحث عن الشهرة والإثارة دون أن يكون لديها رصيد ثقافي أو فكري يؤهلها لذلك»، ولست أري نفسي في حاجة إلي إثبات اتفاقي مع فاروق جويدة فيما قال، ولكن الذي أحب أن أقوله له إن الإعلام المصري ليس في حاجة إلي تذكير فاروق جويدة أو غيره للإعلام المصري بأن يعود إليه «وعيه ورشده وصوابه» كما أشار إلي ذلك! فالنماذج التي تعرضها الشاشات المصرية علي الناس صباح مساء مما أشار إليه «جويدة» هي نماذج مطلوبة مقصودة لذاتها ولما تقول وستقول! فالذين يفوزون بتقديم البرامج الثرثارة يتصورون أنه لا سبيل إلي شهرة برامجهم إلا إذا استعانت بهذه النماذج! بصرف النظر عن عدم أهليتها وكفاءتها المستندة إلي رصيد فكري أو ثقافي، وكل ما يعوزها فقط سوءة الاجتراء علي كل شىء أو شخص يمثل قامة وقيمة، وهي والحمد لله غنية بهذه السوءة إلي حد التخمة، بل ومتورطة بها تختال كأنها فخورة بجهلها الذي تحرص عليه ولا تري سببا واحدا يجعلها تفرط فيه، لا ينافسها في ذلك غير مقدمي هذه البرامج الذين يمثلون حالة مرضية من الاندهاش والانبهار لما يتفضل به الجهلاء والنكرات من الآراء. وبرامج الثرثرة تعاني أزمة في الاستعانة بمن يؤهلهم رصيدهم لتقديم حوارات أو أحاديث محترمة، حيث هؤلاء لا يمكنهم أن يجدوا الوقت لكي يفكروا وينتجوا، الكثير منهم يعتذر دائما عن عدم وجود وقت يضيعه، والقليل منهم من يجد ضرورة تفرض عليه أن يتحدث في حوار تليفزيوني طرفا في قضية مثارة لابد أن يدلي بدلوه فيها، فليس هذا بالباحث عن فرصته للظهور في التليفزيون أو الحديث بمناسبة وبدون مناسبة بغية «الشهرة والإثارة» كما وصفهم فاروق جويدة، ولأن البرامج علي الشاشات قد أصبحت لا جديد في أفكارها، فإن الذين يقدمونها يعرفون طريقهم إلي «زبائنهم» ممن يحدثون الفرقعات ولا يضيفون شيئا للناس سوي الإضرار بهم وتضليلهم وتزييف وعيهم، وقد أصبحت البرامج بتكرارها الممل فرصة «ذهبية» لكل الأفكار «العفنة» التي ترعب الناس مما ينتظرهم علي أيدي الذين يروجون لمكارثية جديدة في الشوارع والبيوت ومؤسسات التعليم، فهي تضع «الضوابط» لحياة الناس بحيث تتحول حياتهم إلي مأتم كبير! ويجللهم الحزن علي حرياتهم وسماحة عقيدتهم، وقد ذهب عنهم كل ذلك! فإذا أضفنا إلي كل ذلك شبكة المصالح التي تسير حياة الإعلام الآن، وليس هذا بغائب عن رجل في وعي ويقظة فاروق جويدة، فإن صحفا كثيرة قد نشأت لمجرد أن تكون فروعا لقنوات الفضاء! وقد اصطنعت هذه الصحف لمساحاتها نفرا من الكتاب أو أشباه الكتاب ممن يتبادلون الترويج لمواد الشاشات الفضائية والشاشات تروج لما يكتبون!، ولم تعد هذه اللعبة خافية علي أحد، والوعي العام هو الضحية الأولي للغو كل من له نفوذ أو بعض النفوذ في صحيفة فرع أو قناة أم، وهي لعبة أظن أنها لا تنقضي، اللهم إلا إذا ثارت الناس علي ما تقدمه لها هذه القنوات والصحف فقاطعتها وهو أضعف الإيمان!، وليس يخفي علي أحد أن قطاعات واسعة من المشاهدين في مصر ليس لديهم أدني فكرة عما تنشره صحف بعينها لأنها لا تطالعها ولو علي سبيل المصادفة!، وليس يخفي أن هذه القطاعات لا تتابع علي الشاشات إلا ما تكتف فيه بخبرتها أنه يخاطب عقلها ويحترم مشاعرها.. ويا أخي فاروق، هون عليك.. فالكارثة أوسع من مذيعين تافهين.. أو أدعياء يثرثرون.. بل هو إعلام في حاجة إلي ثورة إنقاذ!