باستثناء فيلم «المومياء» للمبدع شادى عبدالسلام، فإن السينما المصرية تفتقر اللغة التأملية، والتعبير البصرى، وتكاد أن تكون نادرة الإنتاج، وإذا كانت كذلك فى السينما فهى منعدمة فى الأعمال التليفزيونية بطبيعة الحال. والتأمل هو عملية ذهنية للإمعان فى أفكار مجردة، وفى السينما هو محاولة لتجسيد الرؤى العقلية والهواجس النفسية فى صور سينمائية دون إفراط فى الحوار للتعبير عن الأحداث والشخصيات.. ومسلسل «واحة الغروب» المأخوذ عن رواية، بنفس الاسم، للكاتب بهاء طاهر، ومن إخراج كاملة أبوذكرى، وبطولة نخبة من الممثلين، من الأعمال المستثناة من استخدام الحوار إلى حد اللغو و«الرغى» كعادة كل المسلسلات التليفزيونية، للتعبير عن مضمون العمل، وعن الشخصيات وأفكارها وسلوكياتها وكل مشاعرها، حيث حاول السيناريو أن يجسد الخيال الروائى فى صور ومشاهد مع القليل من الحوار والكثير من المنولوجات (الحوارات الداخلية مع النفس، كما جاءت بالرواية) للتحليق بالمشاهد فى آفاق الأفكار المجردة، والمشاعر الإنسانية الذاتية والعامة، فى حالة وجودية تبحث فى مصائر البشر وفى الصراع الأسطورى للإنسان مع نفسه ومع الآخرين ومع الكون.. فتلبست الشخصيات الرئيسية للمسلسل حالة «هاملتية» متسربة من مأساة مسرحية «هاملت» الشهيرة للكاتب الإنجليزى وليم شكسبير. ومبدئياً.. فإن «واحة الغروب» من الروايات التى يصعب تحويلها إلى عمل سينمائى وبالتأكيد تليفزيونى بقوانين الإنتاج التقليدية، خاصة أن الرواية كلها، تقريباً، عبارة عن منولوج داخلى، ولذلك فإن الإقدام على إنتاجها تلفزيونياً، وليس سينمائياً وإن كانت الأقرب للشاشة الكبيرة، هى شجاعة إنتاجية وإخراجية، وبراعة فى الكتابة التليفزيونية.. رغم ما صاحب ذلك من مشكلات فى السيناريو كان من المفترض أن يعالجها الإخراج ولم يحدث. أولاً التتر لم يحاول أن يأتى موازياً للمسلسل، بقدر محاولته أن يكون افتتاحية لتهيئة المشاهد للولوج إلى هذا العالم الذى يشبه الموت للذين يعيشون فيه، وملاذاً غير آمن من الأحزان والتساؤلات والبحث عن الذات للواصلين الجدد إليه، ولكن فى الحقيقة سيسقطون فى متاهة لا نهاية لها.. وهكذا جاءت موسيقى «تامر كراون» كغلاف روحانى للعمل ككل، مستخدماً فى ذلك الطبول مع الوتريات كنذير لحزن يلوح فى الأفق أو موت قادم لا محالة، مستلهماً موسيقى تراثية صعيدية مع صوت المغنى «وائل الفشنى» الذى كان «يولول» وينوح أكثر منه يغنى وبصوت معبر وقوى، وهو بالمناسبة حفيد المقرئ والمنشد الدينى الشيخ طه الفشنى، والذى بدأ مغنياً قبل أن يتجه إلى قراءة القرآن الكريم والإنشاد الدينى. أما بالنسبة للسيناريو والحوار فإنه برغم المقدرة الفنية لكتاب السيناريو والحوار للمسلسل (أول 15 حلقة مريم نعوم وأحمد بدوى، وكتبت ال15 حلقة الأخيرة السيناريست هالة الزغندى) فإن المنولوج الممتد بطول الرواية بداخل معظم أبطالها الرئيسيين، أضاف صعوبة عليهم فتورطوا فى مشاهد طويلة ومملة، بل وكادت حلقات كاملة أن تكون عبارة عن مشهد واحد، وكان من المفترض على المخرجة كاملة أبوذكرى معالجة ما فشل فيه السيناريو دون السقوط فى الإيقاع البطىء، ولكن اشتركا معاً فى استكمال الملل فى كثير من الحلقات، وأنه كان يجب أن تصاحب حالة التأمل التى تنتاب أبطال المسلسل مثل محمود عبدالظاهر وكاترين والشيخ يحيى فى حوارها الداخلى، المعادل البصرى الموازى لذلك دون تكرار وراء تكرار فى بعض الحلقات وهى مسئولية الإخراج.. ولكن ذلك لا ينفى امتلاك كاملة أبوذكرى شجاعة كبيرة بجانب امتلاكها أدواتها الفنية للإقدام على إخراج الرواية. التمثيل.. كان أداء الفنان خالد النبوى، متسقاً مع روح شخصية محمود عبدالظاهر كما جاءت بالرواية، ولا شك أنه قدمها بعمق وتفهم لأبعادها، وإن كان يفتقد فى الكثير من الأحيان إضافة مسحة من الحزن على الشخصية. أما الفنانة منة شلبى، فإننى من المنحازين لها كممثلة محترفة تؤدى أدوارها باستيعاب كامل للشخصية وليس مجرد تقمصها.. وكنت متخوفاً أن تؤدى شخصية الأجنبية التى تتكلم العربية المكسرة بالطريقة التى يمكن أن تسقطها فى فخ الشخصية النمطية للأجنبى فى السينما المصرية من أول الخواجة بيجو حتى كبار ممثلى وممثلات مسلسلات رمضان الماضى الذين ينطقون، عن جهل، مخارج الحروف العربية مثل الأجانب مثل نطق القاف كاف.. بل إن هناك ممثلاً ضخماً يقولون إنه ممثل جيد ولا أرى ذلك، كل حروف كلماته يا إما سين أو شين ويبلع بقية الحروف الأخرى فى بطنه الواسع. المهم أن منه شلبى ما زالت قادمة ولديها الكثير لتقدمه المهم ألا تتورط، تحت ضغط الشغل من أجل التواجد، بقبول أعمال أقل من المستوى الذى وصلت إليه فى حارة اليهود العام الماضى، وواحة الغروب هذا العام. وبالنسبة إلى الفنان أحمد كمال فإنه كان كعادته مفاجئاً فى أدائه مقتدراً فى تقديم الشخصية كما يجب أن تكون فقد تمكن من التعبير عن حالة الشيخ يحيى بحزنه الشفاف وعجزه وانسحابه المتواصل، وعدم تكيفه مع عادات وتقاليد أهل الواحة أو كبارها.. أما الفنان سيد رجب، فإنه الممثل الذى يؤدى بعينيه قبل تعابير وجهه بسهولة وعمق فى نفس الوقت، وهو إضافة إبداعية لكل عمل يشارك فيه. وكان الأداء التمثيلى للوجه الجديد «ركين سعد» التى قامت بدور «مليكة» مبشراً بقدوم ممثلة، و«دنيا ماهر» التى قامت بدور «خديجة» مميزة، و«ناهد رشدى» قديرة وكذلك «رشدى الشامى» الذى استنطق الشر بالتجهم والالتفات الحاد. وكان للممثلين «مُنذر رياحنة» فى دور الدليل «أيوب»، و«خالد كمال» فى دور «طلعت» حضور مميز. ولكن يبقى لطاقم التصوير المشاركة فى إبداع المسلسل من خلال الصورة البصرية، الموحية بقيادة الفنانة المصورة «نانسى عبدالفتاح». وفى هذا الإطار قام فريق عمل الماكياج المكون من «طارق مصطفى» و«عمرو عبدالله» و«أحمد مصطفى» بلعب دور كبير فى رسم الشخصيات وتقريب المسافات بينها وبين المشاهد وخصوصاً شخصيتى الشيخ يحيى (أحمد كمال)، وكاترين (منة شلبى) التى جعل منها فتاة أيرلندية خالصة ومقنعة ببراعة حتى تكاد تنسى، فعلاً، أنها منة شلبى التى هى أقرب إلى فتيات الحوارى الشعبية المصرية! وأخيراً فإن المسلسل يحسب لا شك للشركة المنتجة «العدل جروب»، ففى ظل الإنتاج الواسع للدراما التليفزيونية العربية التى أضحت كلها عبارة عن حوارات أشبه بحوارات الإذاعة التى تقول كل التفاصيل، والصورة فيها عبارة عن مشاهد مسرحية تكاد تكون حركة الممثلين فيها محدودة بحيز مكانى واحد.. فتأتى «العدل جروب» وتنتج عملاً لا يضيف فقط إلى رصيدها فى الدراما التليفزيونية عملاً مميزاً، ولكن عملاً مصرياً متفرداً من أهم مزاياه أنه حالة تأملية إنسانية، تجعله متاحاً للفهم والاستيعاب من جمهور فى كل دول العالم، وهى الميزة التى كان يتحلى بها فيلم «المومياء» وجعلته أيقونة مصرية بجمال عالمى.