ليس اليوم ذكرى رحيله فقد مات فى ليلة خانقة الحرارة من أيام أغسطس، لكنى كلما زرت هذا المكان وهو يضج بمهرجانه السنوى ويستقبل آلاف الوجوه والكتب العربية والغربية ومنها اليهودية وصهيونية الثقافة والمضمون حتى إن غاب الحضور المعلن لإسرائيل فى معرض الكتاب، كلما غدوت وراوحت المكان أشعر وكأنى أزور شاهد قبره، وأشعر بروحه تهيم ها هنا بين الأرجاء، فقد كان معرض الكتاب السبب فى وفاته بصورة أو بأخرى، فكما لكل أجل نهاية، أيضا لكل موت سبب، وقد رسمت كلمة جارحة من صديقة رسام الكاريكاتير حول معرض الكتاب طريقه للنهاية، «كلمة» كانت كالسيف الحاد الذى غمد بقسوة فى صدره، والسهم السام الذى أصاب دمه، نعم الكلمة الجارحة تقتل الشرفاء، تذبح من الوريد إلى الوريد، تمتد كألف ذراع لتخنق أنفاسهم وتزهق ارواحهم.. الكلمة الجارحة سكين يشق اللحم تقتل فى قسوة بلا كفين، كان ذلك فى هذا الزمان، فيما باتت الآن آلاف الكلمات لا تقتل آخرين ولا تؤثر فيهم ألف طعنة سكين. اتهمه الصديق ببيع نفسه ب «مليم» لأن إسرائيل كانت ستشارك فى معرض الكتاب الذى تشرف عليه الهيئة التى يرأسها عام 1981، ورغم إيمان الجميع بوطنية الشاعر الحساس العاشق لبلده ومعاصرتهم لصرعاته مع السلطة، وتمزقه بين الوظيفة واحتياجات الحياة الأساسية وبين طبيعة الشاعر الحرة التى ترفض الحدود والقيود والانحناء لتوفير العيش لأطفاله، ورغم علمهم أن قرار مشاركة إسرائيل كان سياسيا وبأمر السادات، إلا أن صلاح عبدالصبور لم يحتمل الاتهام، وسقط بين أيدى الرفاق ذبيح المشاعر قبل القلب، ليصمت صوته الشجى للأبد، ولتبقى روحه فى احتفالية كل عام تردد أصداء الفجيعة، تعلن الحقيقة، أن إحساس الإنسان الشريف بكرامته يفوق أى تصور، وأنه بلا مراء يمارس كرامته فى كل لحظة بعفوية داخلية لا افتعال، حتى لو دفعته تفاصيل الكرامة الى مرحلة التشنجية، لتلقى به إلى جانب العلاقات الجليدية مع العالم أو إلى فراق العالم كله... أي عالم لا يحترم كرامة الإنسان عامة ولا الشريف المثقف خاصة، عالم يدون كل الأشياء وعلى رأسها الإنسان والكرامة فى خانة التثمين المادى الحقيرة «كم تساوى»، أو يصنف الكرامة وفقا للغة المصلحة الرخيصة «خد وهات». كل عام أرى وجهه النيلى الهادئ وقد حمل فى كفيه طمى النماء، وبريق عينيه المفعمتين بالشجن وبالأمل تصرخان فيمن باعوا الشرف والكرامة، أشعر بروحه الطاهرة تلومنا عما بلغ إليه كثيرون الآن من حملة لقب «الثقافة» من انحطاط فى الكرامة والشهامة وقبول مسلمات الخضوع واعتناق كل ما مات هو دونه حتى لا يقبله أو يوصم بقبوله، فها هى إسرائيل تتغلغل منذ أن مات شاعرنا..تتغلغل فى ثقافتنا فى أقلام مثقفينا، فى طعامنا، بذور أرضنا، شرابنا، دوائنا.. تتمتع بغازنا لتدير حضارتها.. حضارة القمع والقتل والإرهاب، ها هى تشرب الخمر.. ترقص.. تشعل شموعها.. لتدنس الأرض فى أبو حصيرة تحت حراسة أمننا وأحذية جنودها لا تزال تحمل آثار دماء الشهداء.. شهدائها. ها نحن نعانق ما مات دونه حتى لا يقبله، نتبادل فى بساطة مع رشفات شاى الصباح اتهامات التخوين والعمالة والتمويل، نكتبها.. نقرأها، نلوكها كأقصوصة نتسلى بها فى المساء، ولا نرى أحدا يموت ولا يسقط شهداء من طعنات الكلمات، هل فقدت الكلمة قوتها.. سلاحها، أم لم يعد هناك شرفاء، أو أن اعتدنا الخوض فى الكرامة والشرف كما نخوض فى سيرة الأنبياء والنبلاء، وأصبح كل شىء لدينا سواء. توقف قلب الشاعر مع أول اتهام باطل بقبول إسرائيل فى معرض الكتاب، فيما يقبل آلاف المثقفين والشعراء الآن أيادى الاسرائيليين والأمريكان، ويعانقون كل المتآمرين على الوطن، ويقفون على أبواب سفاراتهم كالمتسولين لطلب الدولارات أو الزيارات والرحلات المدفوعة متوشحين بالبجاحة والصفاقة وأسباب العلل والتفسير. رحمة الله على فارس القلم.. عاشق الوطن، شاعر الحب والألم، فقد رحل ولا تزال روحه تلومنا، وكلماته تصفنا.. الناس في بلادي جارحون كالصقور، غناؤهم كرجفة الشتاء في ذؤابة المطر، وضحكهم يئز كاللهب في الحطب، خطاهم تريد أن تسوخ في التراب، ويقتلون.. يسرقون.. يشربون.. يجشأون، لكنهم بشر، آه يا عبد الصبور أو لم تر الآن كيف صاروا.. وأى بشر !.