«على» يبحث فى صناديق القمامة عن ثوب جديد «محمود» سيلبس جلابية أهداها له أحد العائدين من الحج «سيف» سيأكل «كشرى» ويحاول دخول السينما «كريم» يتمنى توفير أجرة الحلاق لتسريحة «كريستيانو» الفلوس لا تشترى سعادة... نحن نصنع من أحزاننا أفراحاً كى نعيش.. والفقير والغنى لازم «يعيد» حتى لو كان «لبس العيد» قديماً، حتى لو كان الجيب خالياً إلا من جنيهات تفوح منها رائحة العرق والشقاء، لابد أن نفرح بكعك العيد حتى لو كان من مخبز رخيص، سيبدد حلاوته عناء الصيام والشغل فى الشارع فى «عز الحر»، ورغم إرهاق الجسد الصغير سينتعش مع تكبيرات صلاة العيد لنصلى، وسنسعد ب«فسحة» مع الشلة على النيل، والغدوة «ملوحة وسردين». إنها خطة بسيطة وعادلة يضعها «أبناء الشقاء» للعيد الذى ينتظرونه من العام إلى العام ليمسح عذاب شهور طويلة من العناء الذى أهلك طفولتهم وغابت معه ضحكتهم. خلف شحوم السيارات والزيوت تختفى ملامح شديدة التفاؤل ترسم ابتسامة أبدية على وجه لم يجد ما يدعو للابتسام، لكنه كباقى الأطفال فى سنه يعيش على أمل أن تضحك الدنيا بعد طول عذاب. «على» صبى ميكانيكى يرفض أن يصبح «بلية» مثل جميع من هم فى مثل حالته، فالعمل لديه وقتى واضطرارى ولم يقع أبداً فى حبه حتى ولو كان الأسطى يمنحه فى آخر اليوم 15 جنيهاً غير 10 جنيهات ليشترى الإفطار، وهذه مبالغ محترمة فى عرف أبناء هذه المهنة فى سنه أو على الأقل فى نظر أمه التى تنتظره بفارغ الصبر كى تدبر أمور بيتها من حصيلة عمله هو وباقى أخوته، «محمود» الذى يعمل فى محل كاوتش و«إسلام» الذى يعمل «دليفرى» فى صيدلية. أسرة مكافحة من الأطفال، الذين لا يزيد عمر كبيرهم على 15 عاماً، اضطروا جميعاً للعمل لينفقوا على أنفسهم بعد وفاة الأب وعجز الأم عن مواصلة العمل بسبب مرضها. القصة كالعادة لا تنتهى عند الشقاء فى الصغر والطفولة المحرومة من أبسط حقوقها بل تمتد للأحلام الموؤدة المدفونة فى القلب المكسور. ورغم ذلك للعيد فرحة يجب أن تؤجل فيها الأحزان وتحصل على هدنة إجبارية يتفرغ فيها الصبية لاقتناص سعادة خاصة يصنعونها بأنفسهم وعلى قدر إمكاناتهم المتواضعة شبه المعدومة. عندما سألت «على» عن كيفية الاستعداد للعيد وكيف سيقضى أيامه فكر قليلاً ثم قال بكلمات متقطعة: هنعمل زى كل العيال هنصلى العيد وناكل كحك. هل اشتريت ملابس جديدة للعيد؟ رد على الفور طبعاً وهنا تدخل «محمود» مستنكراً وقال: هو هدوم الوكالة اسمها جديد؟ - على: الحمد لله على كل شىء أنا كان نفسى أشترى طقم جديد من قبل ونزلت الوكالة بصراحة غالية أقل قميص مستعمل ب70 جنيه والبنطلون مثله لكن عرفت أشترى طقم من المنيب ب100 وأمى غسلته وأنا كويته. - محمود: ليس مهم عندى الملابس الجديدة ولم أستطع تحويش أى شىء من اليومية لأن صاحب محل الكاوتش لا يعطينى أكثر من 5 جنيهات فى اليوم وكلها أعطيها لأمى، المهم غسلت جلابية كان زبون جايبهالى من الحج العام الماضى وسأصلى بيها العيد ثم نخرج لأن الفسحة أهم حاجة. - إسلام: وأنا سأشترى ب10 جنيه سردين وشوية بصل وعيش ونتفسح على الكورنيش ونتغدى على النيل ويمكن نشترى ملوحة. ضحك «على» وقال: انت نايم يا بنى عاوز تتغدى سردين وملوحة ب10 جنيه؟؟ - رد إسلام ضاحكاً: الدكتور صاحب الصيدلية عارف واحد كويس هيوصيه علينا ويمكن يطلع جدع وما ياخدش فلوس. أحلام كريم كثير من القادرين يمنحونه الهدايا فى مثل هذه الأيام، يمرون فى سياراتهم بسرعة لكن تجبرهم نظرات عينيه على التوقف والرجوع إلى الخلف، حيث يجلس على الرصيف بجوار المناديل التى يبيعها لراكبى السيارات فى الطريق لكن الصيام أنهك قواه فقرر الجلوس تحت الشمس الحارقة وانتظار الرزق. كريم يحلم ب«كوتشى أبيض» بدلاً من الشبشب البلاستيك الذى يلهب قدمه فى الحر، وقد مل من كثرة إصلاحه. حتى لا يشترى غيره. كريم يأتى يومياً من إحدى قرى الجيزة ليبيع المناديل فى شوارع القاهرة ويفطر فى أى مائدة رحمن. لكن رمضان يودعنا والعيد هو ما يشغل بال الولد الشقيان، هو لن يشترى طقم العيد لأنه لا يملك ثمنه وليس هذا ما يهمه. ما لذى يشغل بالك الآن؟ - فلوس الحلاق!! نفسى أعمل تسريحة كريستيانو والحلاق فى البلد قالى عاوز 20 جنيه علشان بيزوّد فى العيد وليس معى هذا المبلغ، كل ما أكسبه من بيع المناديل طول النهار 20 جنيه إلا إذا رزقنى الله بزبائن طيبة تعطينى أكثر من ثمن العلبة، أحياناً زبون يعطينى بالعشرة أو العشرين جنيه ولا يأخذ المناديل أصلاً ربنا يكرمهم عارفين الظروف. أين ستقضى العيد؟ - مع أبويا وأخواتى وأحياناً نخرج أنا وأصحابى ونرتب خروجة لحديقة الحيوانات بنفرح جداً ونلعب وننسى همومنا. لكن الأهم أن أسعد أخى مصطفى. (صمت كريم للحظة كاد فيها أن يبكى). وما الذى يسعد مصطفى؟ - أخويا الصغير وتعبان شويه الدكتور فى المستشفى بيقول عنده أنيميا ولازم ياكل خضار وفاكهة وكبدة وأبويا قال الحاجات دى غالية ولذلك يأكل أخى الصغير المريض مما نأكله. الأهم من الطعام أنه يحلم بطقم جديد للعيد وأصحابى قالولى ننزل السيدة زينب أو الموسكى أشتريله طقم ومعايا 50 جنيه لكن وجدت أقل بنطلون ب100 جنيه وال«تى شيرت» ب60 وأنا كل ما استطعت توفيره 70 جنيه (والله مش مهم أحلق زى كريستيانو المهم أخويا يلبس فى العيد ويفرح زى العيال فى البلد). على عوض وسط أكوام القمامة يفتشون عن أرزاقهم، يرتجفون من الغرباء ينظرون إلينا بعين الشك والريبة، ربما يعانون من شعور مزمن بالخوف من الجميع، ليسوا جميعاً من الضالين بل فيهم من له أب وأم لكن يفتقدون رغم وجوده طعم الأمان، الاقتراب منهم مغامرة محفوفة بالمخاطر لكن عندما يأمنون على أنفسهم يتحدثون بما يكوى القلوب. اقتربت من مجموعة أطفال يلهون فوق عربة كارو وبجوارهم القمامة والحيوانات الضالة. سألت أحدهم: بتعملوا إيه؟ - بتوجس شديد أجاب أحدهم فيما يحاول الجميع منعه من الرد: بنشتغل، وفهمت منه أنهم يبحثون فى القمامة عن أى شىء له ثمن كما دربهم المعلم. على أى شىء تبحثون؟ - بلاستيك، ازاز، حتى القماش القديم. ضحك أحدهم وقال: ممكن نلاقى هدوم ينفع نلبسها. - طفل آخر: ممكن نلاقى فلوس علشان نعيد.. وكأنه يسخر مما يقول يرد طفل آخر: فلوس إيه دى كلها زبالة وما حدش بيضيع منه فلوس. الأطفال الصغار الذين يحاولون خلق عالمهم الخاص حتى وسط القمامة أكدوا فى بساطة شديدة أن العربة والحمار ملك والد أحدهم وهم يعملون بلا أى مقابل ولكن المعلم الأب وعدهم أن العربة ستعمل فى العيد بالفلوس (يعنى هنركب العيال ويتفسحوا وياخدوا لفة الواحد ب2جنيه لكن إحنا هنتفسح ببلاش لو اشتغلنا كويس). تذكرت أن فسحة الكارو كانت من علامات الفرحة الأصيلة فى الأحياء الشعبية فى العيد وكنت أظنها من التراث الذى اندثر لكنها ما زالت موجودة وما زالت تسعد هؤلاء الأطفال الفقراء المساكين بل يغوصون بأجسادهم النحيلة فى أكوام القمامة ليفوزوا بفسحة «على عوض» فى العيد وكما وعدهم المعلم «ببلاش». مصر جميلة لم أتوقع أن أجد فى عينيه كل هذه الفرحة بقرب حلول العيد فمثله لا يعرف من الدنيا إلا وجهاً يسقط منه العرق بغزارة وطعم تعود منه المرارة. «سيف» يعمل فى إحدى ورش النجارة رغم صغر سنه، الذى لا يتعدى السنوات العشر تقريباً. لكن البهجة تكافح كابوس الشقا وتنتصر لبراءة الطفولة. سيف قال إن أمه تعمل فى تنظيف البيوت واستطاعت أن تجلب له طقماً قديماً من أحد الزبائن الذين تعمل عندهم لكنه جديد ولم يلبسه صاحبه كثيرا وفرح به وقال: لن أقول لأصحابى غنه مستعمل لأن أمى غسلته وقامت بكويه فأصبح كالجديد. التفت الطفل حوله وتأكد أن الأسطى صاحب الورشة غير موجود وقال: بصراحة الشغل نايم واليومية «أى كلام» لكن لما يكون عندنا عفش عروسة يطلعلى قرشين كويسين. الأسطى بيقول إن الناس مش لاقية تتجوز من الغلا، وكل اللى عملناه طول رمضان بنصلح فى كراسى وترابيزات قديمة وعملنا طبليتين. وما حدش غدانى بقشيش، الأسطى متجنن وكل يوم يتخانق مع الزباين اللى مش عايزة تدفع وتفاصل وهو صايم وتعبان وبسمعه يكلم مراته ويزعقلها برضه علشان الفلوس، يعنى شكله كده مش هآخد منه عيدية السنة دى. وهتقضى العيد إزاى من غير أجرة ولا عيدية؟ - مش مهم أمى هتدينى ولما ربنا يكرم الأسطى ونقبض هعوضها «إحنا بنشيل بعض، والأسطى لو معاه مش هيتأخر» وهروح القلعة وآكل كشرى وممكن نروح القناطر فى مركب. شعرت برغبة شديدة فى أن أطرح على إسلام سؤالاً: بتحب مصر يا إسلام؟؟ - طبعاً بموت فيها مصر حلوة جداً وفيها أماكن جميلة وبحب السينما ولو ربنا كرمنى والأسطى قبضنى هادخل فيلم «هنيدى» الجديد. حكايات بنات العيد دون فستان أو حتى بلوزة جديدة ما يبقاش عيد، لكن هنعمل إيه اشتغلنا كتير فى الحر والصيام وش ملاحقين. أهالينا «شبعانين فقر» وينتظروا الأجرة التى نحصل عليها كأنها هتمنع عنهم الموت. هكذا ردت فتاة لم تكشف عن اسمها عندما سألتها عن خطتها لقضاء العيد وهى التى تعمل فى أحد مصانع الحلوى وتتقاضى يومية 10 جنيهات. فتاة أخرى تعمل معها فى نفس المكان قالت بحزن شديد: يا ست إحنا شقيانين من زمان ولا نعرف طعم الراحة، أنا عمرى 14 سنة ومسئولة عن عيلة وأب عيان وأم بتشتغل «بإيدها وسنانها» علشان نعيش. وقالت صديقتهن وهى تحاول مداعبتهم: بلاش اكتئاب، احمدوا ربنا يعنى هنرمى أهلنا، بكرة ربنا يعوضنا خير. قالت صديقتها بسخرية: إزاى يا فالحة لا تعليم ولا شهادة ولا عيلة هنعمل إيه؟ ردت الفتاة المتفائلة على صديقتها قائلة: إنت ناسية الجمعية أنا هقبض 200 جنيه نروح الكوافير ونعمل شعرنا ونسهر للصبح وبعدين نصلى العيد مع بعض وممكن نخرج حتى نتمشى على كوبرى قصر النيل ونشرب أى حاجة ساقعة. ثم ضحكت والتفتت إلى صديقتها قائلة: عيد بقى ولا مش عيد؟؟