لم تعد حكايات الجدات الفقيرات تروى شيئاً عن البنورة المسحورة ولا أمير الأحلام ولا ست الحسن والجمال، فالجدة التى حملت هَم ابن عاطل وفى رقبته حفنة من الأطفال، أو انفطر قلبها حزناً على ابنة، هجرها زوجها وتركها مع فلذات أكبادها يواجهون مرارة العيش، تلك جدة وجدت نفسها فى آخر سنين العمر فريسة لكل أمراض الدنيا، لتتحمل مسئولية الأبناء والأحفاد بجسد متهالك ينهشه الفقر ولا يرحمه الغلاء. قد تجتمع الفرحة مع الأحزان فى ظرف استثنائى لكن تظل المرارة فى حلق المحرومين، لتبقى مظاهر السعادة مجرد صخب يلف أركان البيوت المغلقة على تعاسة من فيها، ويظل للألم صوت كأنين تلك السيدة العجوز التى حرمها المرض من نعمة الحياة إلا من أنفاس متعبة تتمنى النهاية العاجلة بعد طول انتظار. فى إحدى حوارى القاهرة تعيش «نفيسة» فى بيت أشبه بالكهف تتدلى قطع الأخشاب البالية من شقوق السقف، بينما تتراص الحوائط بعشوائية بالغة تتداخل مع أجساد الجدة العجوز والابنة التى لم تأخذ حظاً من الدنيا يضمن لها حتى الابتسامة، فيما يخفى الأطفال إحساساً دائماً بالجوع حتى لا تتعذب الجدة المسكينة وحتى لا تضاف إلى عذابات الأم المزيد والمزيد. الجدة حبيسة سرير قديم متهالك يكاد يشبهها فى شحوبة وجهها ووهنها، بالكاد يحمل جسدها العاجز عن الحركة منذ سنوات باتت لا تعلم عددها. تقول «نفيسة»: لا أعلم ما الذى جرى لي، كل ما أتذكره أننى أصبت بالسكر اللعين والضغط وعجز جسدى عن تحمل المرض خاصة أني لا أستطيع توفير الدواء وعمل التحاليل اللازمة كل شهر، كنت أتحرك بواسطة مشاية جلبها لى فاعل خير، ومن صعوبة التحرك إلى دورة المياه كنت أتعذب وأحبس بولى إلى أن تتقطع بطنى ألماً فأضطر ساعتها إلى رحلة أكثر عذاباً إلى الحمام الضيق جداً الذى أدخله بصعوبة كأنهم يحشروننى فيه فهو ليس حماماً آدمياً. ومع مرور السنين صرت لا أستطيع الحركة إطلاقاً بسبب انزلاق غضروفى كان الأمر يتطلب جراحة لكننى لا أستطيع حتى الذهاب إلى المستشفى. منذ متى لم تغادرى بيتك؟ - لم أر الشارع منذ عشرين عاماً تقريباً، وأنا صابرة على الابتلاء، لكن المشكلة أن المعاش الذى أتقاضاه لا يكفى «العيش الحاف». كم معاشك؟ - 300 جنيه لأنى أرملة، مات زوجى منذ 4 سنوات وكان «بائع سريح» ولم يترك لنا شيئاً، وابنتى مسكينة تركها زوجها «بالعيلين» ولا ينفق عليهم. لماذا لم ترفع دعوى نفقة؟ - ليس لدينا ما ننفقه على المحامين ولا نستطيع الجرى فى المحاكم فهى تعمل طول النهار لتربى أطفالها وتساعدنى. نظرت الجدة إلى أحفادها بكل حزن وأسى وقالت: نفسى أعمل عملية الغضروف وأرجع أتحرك كى لا أكون عبئاً على ابنتى المسكينة، يكفيها ما هى فيه من شقاء، تنسال دموع الجدة وهى تحتضن أطفالها قائلة: لو كان بيدى كنت اشتغلت إن شالله أشيل طوب وأساهم فى المصاريف لأن الأسعار مرتفعة جداً وتأتى أيام لا نجد العيش الحاف لكنى وأنا فى سريرى قعيدة لا أملك سوى المعاش وأنفقه على هؤلاء الأطفال الذين لا ذنب لهم فى ما هم فيه. وأحاول قدر استطاعتى أن أرعاهم فى غياب أمهم وأحياناً يأتى لى الأولاد بالخضار لأنظفه وأجهزه إلى أن تأتى أمهم. قلة حيلة «سعاد» تحمد الله لأنه أنعم عليها ببعض العافية تعينها على الخروج للعمل وبيع الجبن وبعض الدجاج -الذى تربيه- فى السوق، ربما لأن القدر كان يخبئ لها أحمالاً ثقالاً بعد أن فقد ابنها عمله وأصبح عاطلاً عن العمل وفى رقبته أربعة أبناء كلهم فى مراحل التعليم المختلفة. تقول «سعاد» إنها تأتى من قريتها فى المنوفية كل صباح بعد أن تستيقظ فجراً فتحمل الجبن الذى صنعته بيديها وبعض الدجاجات والبيض الذى تجمعه من البيوت فى البلد، ثم تأتى إلى السوق لتبيع بضاعتها وتشترى غذاء لأحفادها الذين ينتظرونها بلهفة فى الدار. تنظر «سعاد» إلى الأطفال بحزن شديد وتقول: نفسى أشترى لهم لحمة وأعملهم طبخة حلوة، لكن اللحمة غالية ولا نأكل سوى اللحم البلدى «طبعنا كده» والنتيجة أننا نظل بالشهور لا نتذوق طعمها، ولو حبيت أطبخ أشتري «ظرف السمنة» ومكعب مرقة وناكل «أورديحي». الجدة تدلك ساقها وتتأوه بشدة وتقول: وأنا فى هذا العمر من المفترض أن أستريح وآكل من خير ابنى لكنه مسكين، الدنيا «معاكساه» ويبحث عن عمل ليريحنى من عناء المسئولية، لكنه قدرى وأنا راضية به، المهم أن ربنا يرحمنا من الغلاء الذى حرمنا من متعة الدنيا وأصبحنا لا نرى منها سوى الهم والغم. ورغم شقاء «سعاد» بسبب بطالة ابنها وعجزه عن مراعاة أبنائه إلا أنها أسعد حالاً من «نبوية» التى تربى حفيدين بعد أن فقدت ابنها فى حادث منذ عام تقريباً وأصبحت مكسورة القلب ولم يمهلها الزمان حتى فرصة الحزن على فلذة كبدها بعد أن طحنتها مسئولية صغاره. الحاجة «سلمى» التى تبدو امرأة تخطت الثمانين تؤكد أنها لم تكمل الستين بعد لكن «شيل الهم» جعلها عجوزاً طاعنة فى السن، اضطرت لتبحث عن عمل بعد مصرع ابنها الوحيد وليس لها أى دخل تنفق منه، فابنها كان «مبيض محارة» ويعمل يوماً بيوم ويعطيها لتنفق على نفسها وأولاده. وبعد وفاته مرضت زوجته الشابة مرضاً شديداً ولحقت به فثقل الحمل على الجدة التى تسكن فى مكان أقرب للعشة منه إلى البيت فى إحدى المناطق الشعبية. ورغم اجتهاد أبناء المنطقة الفقيرة فى تزيين حارتهم إلا أن أحزان أهلها وفقرهم أضفى ما هو أكثر من الفقر على الحوائط والجدران ووجوه النساء العجائز مثل «الحاجة سلمى» التى تترك أحفادها يومياً لدى جارتها وتخرج تسعى على رزقها فتشترى العيش «الرجوع» من المخابز وتعيد بيعه ال«3» بجنيه للفقراء أمثالها، وأحياناً تشترى قفص طماطم وشوية خضار وتجلس فى أى منطقة أخرى - سكانها مرتاحين - على حد تعبيرها. تمسح الجدة العجوز أحزانها مع قطرات عرق تساقطت على وجهها وتقول: الدكتور فى المستوصف قاللى ارتاحى وماتصوميش علشان السكر والأنيميا وكلى كويس، وأنا لا أقدر أفطر ولا آكل كويس وطبعاً مش مكتوب علينا الراحة. أمل كاذب كانت عائدة تواً من السوق، تجر قدميها من شدة التعب والصيام الذى أصرت عليه رغم صداع بالرأس لا يفارقها «الفكر والهم ساكنين دماغى وقلة الحيلة أضاعت الفرحة برمضان».. كلمات قالتها الحاجة عزيزة التى تسير بصعوبة ممسكة بيد حفيدها الذى أصر أن يصطحبها حتى لا تحمل المشتريات وتتعب نفسها فى الصيام، لكن أمل الجدة والحفيد صار أملاً كاذباً بعد أن عادت الجدة خالية الوفاض ولم تستطع شراء أى شىء. قالت وقد اختلطت آهات ألم الرأس بألم الاحتياج: لم أجد ما اشتريه وكل اللى معايا خمسين جنيه أعطاهم لى ابنى بعد أن كسبهم من «نقلة عفش» ناس قصدوه يطلع عفش عروسة للدور الرابع وعملها وهو صايم علشان نشترى طبخة حلوة للعيال الصايمين. تستكمل الجدة حكايتها وتقول: ابنى ارزقى غلبان وفى رقبته خمس عيال وأمهم وبصراحة بتشتغل فى البيوت علشان تساعده، لكن رزق يوم بيوم ولا أريد أن أصبح حملاً عليه فأعمل أنا أيضا، أحياناً أساعد الناس المبسوطين فى العزومات وأطبخ معاهم طول النهار والحمد لله غير أجرتى بيدونى أكل ولحمة علشان عارفين ظروف ابني، لكن مر شهران لم أعمل ولم يطلبنى أحد والعيال نفسها فى الطبيخ، نزلت السوق لم أستطع شراء فرخة بيضاء ولا أرز ولا سمن لأن الخمسين جنيه هى كل ما نملك، ودوخت علشان أعمل بطاقة تموين ماعرفتش، وكل شىء فى السوق غالى والعيال نفسها فى كل حاجة حلوة وأنا كبيرة ومش قادرة أشتغل وفى نفس الوقت لا أستطيع أن أرتاح لأن ولاد ابنى فى رقبتى، والتجار لا يرحمون الناس الفقراء ويريدون تجويعنا. قررت الجدة أن تصنع وجبة ساخنة من الفول المدمس بالطماطم خاصة أنها رخصت أخيراً لكن المشكلة فى العيش بخمسة جنيه لا يكفى، تربت الجدة على ظهر حفيدها وتقول له: «ما تزعلش، بكرة ربنا يكرمنى بشغل وأجيبلك لحمة». الرسالة رغم أنها كافحت طيلة عمرها لتربى بناتها وترك الكفاح والشقاء أثره على جسدها الذى بات أقرب إلى أجساد الأطفال من شدة نحافتها، إلا أن «صابرين» تعتبر أن رحلة كفاحها لم تنته بتزويج أربع بنات تحملت من أجلهن مسح طرقات المستشفيات وخدمة المرضى لكونها «تمرجية» فى أحد المستشفيات العامة فقط، بل إن «الحاجة صابرين» عرف عنها خدمة كبار السن بعد أن انشغل عنهم أبناؤهم. ورغم إصابتها بكسر قديم فى ساقها ترك عندها نسبة إعاقة، إلا أن الأقدار شاءت أن تتحامل على نفسها، وتكمل مسيرة الشقاء لرعاية أحفادها بعد أن ترملت ابنتها الكبرى، أما الوسطى فقد رزقها الله بطفلين من ذوى الاحتياجات الخاصة، وعجزت الابنتان عن تحمل المسئولية التى ينوء بحملها الرجال فقررت أن تستمر فى العمل وجلب الرزق لتساعد بنتيها. تقول «صابرين»: مثلنا لا يرتاح يا ابنتي، وكيف تهنأ حياتى وأنا أرى ابنتى الكبرى قد انحنى ظهرها وراح شبابها بعد تحمل مرض زوجها إلى أن مات ولم يترك لها سوى ديون علاجه وطفلين ما زالا فى حاجة إلى من يرعاهما، أما ابنتى الوسطى لديها ابنان من ذوى الاحتياجات الخاصة أحدهما يحتاج إلى علاج شهرى ب3 آلاف جنيه والآخر مثله وزوجها عامل «على قد حاله» لو اشتغل 24 ساعة لن يكفيهما العيش الحاف، واضطررت أن أقبل خدمة كبار السن بعد أن عجزت عن مواصلة عملى فى المستشفى بعد إصابة ساقى ولم أعالجها بشكل جيد فصرت أسير بصعوبة، ورغم ذلك فإن رعاية الناس الكبيرة المريضة فيها ثواب وتهون معها المشقة وبصراحة بيراضونى علشان عارفين ظروفى وبيدونى هدوم للعيال وربنا يباركلهم، المشكلة أن بنتى ولادها بتشيلهم وما تقدرش تشتغل، والحمل عليها ثقيل لكن نصيبها كده. ترفع الحاجة «صابرين» يدها إلى السماء وتدعو الله أن يعينها ويعين بناتها على الهموم، وتقول: «بنحاول نفرح فى رمضان لكن الشقا والهم نسونا طعم الفرحة. وكل ما أحمل همه إذا جرى لى شىء أو توفانى الله ماذا ستفعل البنات والعيال الصغيرة «مالهومش غيري» أهالى أبوهم ما بيسألوش وراميين الحمل علينا ربنا يقوينا ويسترها علشان العيال». وتطالب السيدة العجوز الحكومة بأن ترعى الفقراء الذين لا يصلهم شيء ويعانون حتى فى طعامهم، ولا أحد يسيطر على الأسعار ويمنع التجار من رفع الأسعار على الغلابة الذين أصبحوا ينتظرون الصدقات. وتقسم «صابرين» أنها وبناتها وأحفادها لا يستطيعون طبخ وجبة كل أسبوع ويصومون طوال النهار ويفطرون على الفول والجبنة والبطاطس، وكما تقول: الحياة صعبة علينا ومحتاجين نفنى صحتنا فى الشغل حتى وإحنا مش قادرين وبرضه بنجوع. تمسح السيدة العجوز دموعها التى نزلت رغماً عنها وتقول وقد اختنقت الكلمات فى حلقها: «نفسنا نعيش زى البنى آدمين ونسكن فى شقة كويسة لأن بنتى بأولادها عايشة معايا فى أوضة، ونفسنا ناكل ونفرح زى الناس لكن لا أحد يشعر بنا، لا فى رمضان ولا فى غير رمضان».