لأنها ثورة، فهي عصية على التعريف أو الحصر بين أقواس، لأنه بالرغم من القواسم التاريخية المشتركة بين الثورات من حيث الأسباب والدوافع فإنها لا تحدث بالوتيرة ذاتها أو بوصفة نموذجية تقبل التكرار، وبعيداً عن تصنيف الثورات إلى حمراء أو بيضاء أو رمادية، فإن الهدف أخيراً هو اجتراح أفق جديد بعد انسداد الآفاق كلها، والارتطام بالجدار . فالثورات غالباً ما تكون مسبوقة بمراحل من التذمّر والنقد ومحاولات الإصلاح، لكن ما إن ينفَد الصبر، حتى تندلع كذروةٍ لتراكم، وما من ثورة قامت فجأة إذا استبعدنا من مفهوم الثورة الانقلابات العسكرية التي ترتبط بأحلام جنرالات أو بصراعات داخل القصور وبعيداً من الشارع . وأحياناً تفصل شعرة بين ثورة خلاقة وفوضى مُدمّرة، فالثورة وعي شعبي أصيل وعميق بأن ما أنجزته الدول ومن كدحوا من شعوبها لهذا الإنجاز، ليس ملكاً لأحد بعينه، بخلاف الفوضى التي سرعان ما تحوّل الدولة كلها إلى مشاع وكل مؤسساتها إلى غنائم . وما من ثورة إلا وصاحبها قدر من الفوضى، لأن هناك شرائح اجتماعية تريد ليلاً طويلاً ودامساً كي تصفي حسابات نفسية قديمة، لكن الثورات الناضجة وذات الرؤى لا تمكث طويلاً حتى تتبرّأ من هذه الشوائب، ولا تتيح للفوضى أن تزحف إليها وتأكلها . فالبشر لا يولدون جميعاً بالطريقة ذاتها أو حتى بعد المخاض ذاته، فثمة ولادات طبيعية ويسيرة مقابل ولادات قيصرية وعسيرة . كما أنهم لا يموتون أيضاً بالطريقة ذاتها رغم أن الموت في النهاية واحد . وما ينطبق على البشر يصُدقَ بدرجات متفاوتة على معظم ظواهر الوجود، فلكل ثورة مخاض وظروف حملٍ خاصة بها، وحين تُجرى مقارنات جائرة ومتعسفة تاريخياً بين ثورات منها ما حدث في القرن الثامن عشر أو التاسع عشر أو النصف الأول من القرن العشرين، وبين ثورات تحدث الآن في عالمنا المعاصر، فإن ما يُغري بهذه المقارنات هو دوافع الثورات وليس الثورات ذاتها وأساليب تنفيذها . فالإنسان إذا جاع، أمامه أن يختار بين العمل والسرقة، وقد يجازف بالخيار الثاني رغم عواقبه الوخيمة، لهذا فالثورة في التاريخ ككل الفعاليات الإنسانية ليست أيقونة يحظر نقدها، وحين عوملت بعض الثورات على أنها كذلك انطفأت، لكن بعد أن أكلت كالنار أبناءها وربما أحفادها أيضاً . وإذا كانت الفوضى أو بعضها على الأقل عَرَضَاً جانبياً لكل ثورة أو تغيير، فإن الانتباه إلى هذا العَرَض بهدف تحجيمه وامتصاصه، قد يكون في مقدمة ضمانات الثورة كي تبلغ المنشود منها . ولا نحتاج إلى ميزان الماس كي نفرق بين حابل الثورة ونابل الفوضى، فالفارق مرئي وبالعين المجردة في الشارع وفي مجمل التفاصيل اليومية التي يعيشها الناس . وأخطر ما تصاب به ثورات تأخرت عن موعدها بسبب الإفراط في القمع والطغيان والأمن، هو ردود أفعال مبالغ بها ضد الماضي، وهذا ما حدث في روسيا مثلاً عندما حاول البعض خلع السكك الحديدية لأنها أنجزت في حقبة من الحكم الديكتاتوري وعبادة الفرد . إن ضرورة تحديد الفارق وعلى نحو حاسم بين الثورة والفوضى، هي ما يحمي تراثاً ومنجزات لأجيال عدة، ولم تكن تلك المنجزات مجرد مقتنيات شخصية لحاكم أو ديكتاتور . نقلا عن صحيفة الخليج الاماراتية