وسط الألوان الزاهية والروائح الفواحة العطرة تشق الأقدام طريقها فى مملكة الورد.. امبراطورية الجمال والابداع الربانى على الارض. هنا قرية «الأهالى» التى تبعد عن القاهرة نحو 50 كيلومترًا هى بحق اجمل قرى مصر واكثرها زينة وبهاء، أينما تسر تقع عيناك على اشكال وأنواع من اجمل الورد فيما يمتلئ صدرك برياحين وروائح تتنافس على جلب النشوة لمن يشم عبيرها؟، وسط جنات الله على الأرض تلمح الحزن فى عينه.. يقلب أعواد الزهر يكاد يحتضنه ويواسيه.. ولسان حاله يقول: يا ورد مين يشتريك...وللحبيب يهديك؟؟ مجدى صاحب مشتل ورد ورث المهنة من آبائه وأجداده مثله مثل كل أبناء عزبة الأهالى الذين تخصصوا فى زراعة الورد وبيعه منذ أن انشأ محمد على القناطر الخيرية منذ اكثر من مائتى عام، وجعلها اكبر حديقة مفتوحة ليس فى مصر فقط بل فى الشرق الاوسط كله، وملأ ابناء الاهالى الارض بالورد البلدى والدالية، والمنطور، وسرو الليمون، والصبار، والكريز، وعصفور الجنة، ومئات الأنواع من النباتات والزهور، واشجار متنوعة والزينة التى تصلح لتزيين الفنادق والمحال والأسوار والافراح، ومنها الزهرى الذى يصلح لبوكيهات الهدايا، ومنها العطرى مثل الياسمين والفل لتصبح حقا أكبر تجمع لزراعة الزهور ونباتات الزينة؛ حيث تقدر المساحة المزروعة بالزهور فيها ب100 فدان مقسمة بين سكان العزبة. عم مجدى حكايته مع الورد حكاية حزينة رغم ألوانها التى تبعث على الفرح لكن الفرح كما يقول خاصم الورد وأهله فى زمن توحش الدولار وقبله البشر الذين أشعلوا النار فى البلاد الآمنة فكانت حروبا تحرق الأخضر واليابس سألته فى البداية عن سر تسمية العزبة بهذا الاسم، وهل هم فعلا جميعا اقرباء، فرد قائلا: فعلا، كلنا هنا اهل فعلا ولا نتزوج من خارج العزبة، وكلنا نعلم أبناءنا لكنهم يعملون فى المهنة نفسها، ولو أنها تواجه ضربات عديدة اكثر من أى وقت مضى. كيف؟؟ .بعد أن كنا نصدر لدول أوروبا وكثير من الدول العربية ايام العز، اصبحنا لا نجد تكلفة الزرع وأجرة العمالة، وهم من ذوى الخبرات والكفاءات الخاصة، وكنا نحقق ارقاما قياسية فى انواع الورد كأطول عصفور جنة حيث كان «الباشوات» بتوع زمان يفتحون اسواقا فى كل انحاء العالم، ومن اشهرهم التتونى ونعمان باشا.. ومع مرور الزمن تغير الحال، ولكن الفترة الاخيرة هى الأسوأ خاصة مع الحروب والأزمة الاقتصادية.. يجلس عم مجدى القرفصاء ليعد الشاى وسط زهوره التى أخذ يتحسر عليها، وقال بأسى شديد: ليبيا كانت تشترى اكثر من 70% من انتاجنا حاليا لا تشترى شيئًا بسبب الحرب، والسعودية تشترى كميات اقل من المعتاد، اما فى الداخل فكنا نرسل الورد للقرى السياحية بالغردقة وشرم الشيخ ومع ضرب السياحة الحال تغير واصبحنا لا نجد اجرة العمال.. المهندس محمد أيضاً من اصحاب المشاتل فى «الاهالى» قال إن ارتفاع الدولار اثر فى تكلفة الزراعة وهناك انواع تحتاج إلى صوب وتكييفات ورعاية خاصة وتوضع فى الثلاجات حتى تصل المطار لتكون فى بلادها فى خلال ساعتين، وكل هذه تكلفة علينا.. ويومية العامل غالية تصل ل100 جنيه، فضلا عن المياه والكهرباء التى ارتفعت كثيرا، وكذلك الأدوية والأسمد والمبيدات وهى غالية وزادت اسعارها أربعة اضعاف.. أشار صاحب المشتل إلى صوب «الكريز» بألوانه البديعة ابيض واحمر وفوشيا واصفر قائلا: البلاستك مقطع ونشترى القديم، وكذلك السلك. الذى تضاعفت اسعاره أيضاً يعنى نقوم بترقيع الصوب. نظر الرجل بأسى شديد إلى العمال وهم يجمعون عيدان زهر الكريز قائلا: والله لا نأتى حتى بالتكلفة وحال البلد نايم، واملنا أن الظروف تتحسن علشان الناس دى فاتحة بيوت، وبتاكل عيش من الورد. سألت المهندس محمد عن سر اختفاء الروائح بشكل كبير من الورد رغم اشكالها وألوانها البديعة، فقال: نهتم اكثر بالأنواع التى ترمى محصولًا حتى نعوض التكلفة ورغم ذلك هناك انواع تحتفظ بروائحها مثل الجورى والورد البلدى، واصناف القرنفل، وأضاف قديماً كنا نزرع زهوراً ذات رائحة، لكن المحلات والموردين أحجموا عن شرائها، لأنها لا تحتفظ بجمالها أكثر من ثلاثة أيام فى المحل بعدها لا تصلح للبيع؛ لذا أصبحنا نزرع الزهور بلا رائحة التى يقبل عليها الموردون، ويمكنهم عرضها بالمحلات عشرين يوما. وزراعة الزهور تحتاج إلى عناية فائقة وغير عادية والفل والورد بشكل خاص فلا تُتركه فى صفائح خارج الأرض، فبمجرد ظهور الزهرة فى الورد البلدى ينتقل «من الأرض للمحل وللزبون»، وطبعا تكلفة النقل عالية جدا الآن ورغم ذلك فهذا هو أكثر الشغل المطلوب من أصحاب المشاتل فى عزبة الأهالى خاصة فى موسم الربيع وعيد الأم وغيرها وربما يفسر ذلك ارتفاع الاسعار التى فوجئ بها الناس فى عيد الأم، ووصلت الوردة الواحدة فى المحلات ل20 جنيهًا، والمصريون يعشقون الورد ويشترونه فى كل المناسبات اعياد الأم والربيع وعيد الحب.. لكن الأزمة الاقتصادية غيرت تلك الاوضاع واصبح الورد لا يجد من يشتريه فى الداخل أو فى الخارج. ومتى يبدأ موسم زراعة الورد ومتى يقل انتاجه؟؟ فى يناير من كل عام، يستعد المزارعون فى عزبة الأهالى لموسم الربيع، تبدأ بشراء وتجهيز البذور، فى المشتل، وبعض النباتات تُكسر بذرة، وأخرى تُكسر عقلة، بعدد أنفار متزايد يعمل فى المشتل المترامى على مساحة نحو 4 أو 5 فدادين، ثلاثة عمال على الاقل عاملين من ذوى الخبرة والمتدربين الجدد فى موسم الربيع، ينسقون الزروع فى الأرض، ثم يحصدون الورد التى وجب قطفها، وهناك ما يبقى فى صفائح ليكتمل نموه دون أن تمتد جذوره فى التربة، ومنها من يخرج من المشتل مباشرة إلى المشترى. ويضيف صاحب مشتل الورد: كانت المشاتل توزع المحصول على الفنادق والمحال والقرى السياحية فضلا عن التصدير فى اعياد الربيع والوضع الآن اختلف تماما، حتى فى المواسم التى كنا ننتظرها لم تعد حركة البيع كما كانت فى السابق. لقد تبارى الأهالى فى تطوير مصدر رزقهم وبدأنا زراعة أنواع جديدة من الزهور. حتى ننافس الشركات الكبرى.. حاولنا زراعة البذور وفشلنا أكثر من مرة لكننا نجحنا فى نهاية الأمر. واصبحت عزبة الأهالى هى ملتقى المزارعين والموردين وأصحاب محلات الورد تعرف طريقها إلى هنا، لذا أطلقوا عليها اسم بورصة الزهور حيث تقوم بتحديد سعر الزهور فى السوق. والوضع الآن صعب، ويهدد بيوتنا ومصدر رزقنا. لماذا لا تشاركون فى معارض الربيع فى القاهرة؟؟ بسبب ارتفاع الايجار وارتفاع تكاليف النقل، لكن هم يشترون منا اصنافًا عديدة للمعرض.