عينان ضيقتان، وبياض يكسو رأسه، ويدان سادتهما تشققات ارتسمت عليها لحظات حياتية كانت شاهدة على اجتيازه الصعوبات التي اعترضت طريقه وعمله المتواصل، فبالرغم من كبر سنه إلا أن نشاطه بدا على ملامحه وابتسامته التي أضاءت وجهه البشوش. "عم سلامة" رجل تجاوز ال 80 عامًا من عمره، لكنه ظل محتفظًا بآلية عمله التي أصر على توريثها إلى أبنائه ثم أحفاده، فتندهش حينما تراه يعمل مع أبنائه دون كلل أو ملل يتنقل هنا وهناك كي يطمئن على جودة العمل بمصبغته التي تشبه الخلية إلى حد كبير بسبب النشاط الذي يسود أركانها. تقع مصبغة "العمال" كما سماها صاحبها في منطقة الغورية وبالأخص في حي أصلان بالدرب الأحمر، وقد تعدت ال 100 عام من إطلاقها شعلة العمل. استطاع العجوز أن يضع لمملكته طابعا خاصا بها يميزها عن غيرها، وكان أولها توقيت العمل بالمصبغة التي بدأت مع نغمات العصافير حتى إنهاء المهمة المطلوبة على أكمل وجه، إضافة إلى وجود آثار الزمان على جميع أركانها الأمر الذي جعلها تسر الأنظار. حينما تطأ قدماك داخلها تستطيع الخيوط أن تخطف عيناك وقلبك في آن واحد وذلك في أقل من الثانية، فتبدو الخيوط زاهية، تسر العاملين وتداعب بعضهم البعض، لكنها رغم ذلك ما زالت تحتاج للتجفيف بإحدى الآلات بعد وضعها بألوان الصبغة، فلا تستغرق إلا دقائق لتصل للشكل الأخير بسطح البناية. وفي مشهد آخر ترى برعمًا صغيرًا يجوب بين الآلات يشترك في عمليات الإنتاج واحدة تلو الأخرى حتى الوصول إلى مرحلة التجفيف، كان أصغر عامل بالمصبغة مصطفى حفيد "عم سلامة" الذي لم يتعد عمره ال 15 عاماً، تشرب المهنة من خلال جده الذي حرص على استكمال أحفاده لمهنته التي هواها منذ صغره. حياة "عم سلامة" معلقة بالمصبغة، ترعرع بداخلها كملك يأبى التنازل عن العرش، فيها قضى شبابه، وبجوارها يسكن، ضياء الخيوط يجذب قلبه كلما ذهب إلى مكان ما، حتى تعلق بجمالها. تعلم العم سلامة فن الصباغة حينما كان طفلا صغيرا يبلغ من العمر 7 سنوات ليتقن مهنته ويصير صاحب أشهر مصبغة بلدي، فقام بشرائها من محمود محمد عطية مستأجرها قبل العجوز. "اشتغلت من صغري لان حبيت ايدي تبقى خشنة علشان ارضي ربنا ورسوله، المصبغة هتبقى كبيرة بأولادي وأحفادي وهتفضل مفتوحة للناس كلها على مر الزمان" بتلك الكلمات أنهى عم سلامة حديثه.