- يسلم ترابها الأسمراني - يسلم شجرها الأخضراني - تسلم لنا مصر الحبيبة - ملناش حبيبة غيرها.. تاني بهذه الكلمات التى كتبها عبدالرحيم منصور ولحنها بليغ حمدى، انتهى نجم الأغنية الشعبية الصاعد - حينذاك - «محمد رشدى» من وصلته الغنائية فى الحفل الذى أقيم للجنود فى محافظة السويس فى ذكرى العدوان الثلاثى 1956. الحفل انتهى فى ساعة متأخرة من الليل، الأتوبيس جاهز للعودة بنجوم الحفل للقاهرة، بعدها غنى للمقاومة والوطن وترابه ومجده ورجاله البواسل. صعد «رشدى» للأتوبيس سعيداً، بعدما ساهم فى إسعاد جنودنا على خط المواجهة والمقاومة، جلس فى المقعد الأول - المقابل للسائق - بجوار زميلته الراقصة «نادية فهمى» - كانت فى بداية شهرتها - والأتوبيس قطع 50 كيلو متراً تقريباً فى طريق عودته. الليل لملم ظلامه، والصباح أشرقت أنواره، والنجوم على مقاعدهم ما بين نائم أو ساكت أو سارح فيما حدث ليلة أمس. وقبل أن ينتهى «رشدى» من حديثه الباسم مع «نادية فهمى» قالت له مستأذنة: ممكن يا رشدى تترك لى هذا المقعد، وتنتقل الى المقعد المقابل، فأنا فى حاجة شديدة للنوم، رد: طبعاً.. وبالفعل انتقل للكرسى المقابل، الدقائق مرت بطيئة، والسائق بدأ يزيد من السرعة، والراقصة «نامت»، ورشدى ينظر بعينيه من الشباك للسماء والصحارى، وعقله يتذكر لحظات الحفل وهتاف الجنود معه وهو يغنى: - تسلم لنا مصر الحبيبة - ملناش حبيبة غيرها.. تانى. الدقائق تمر.. السويس تبتعد، القاهرة تقترب.. وعلى قارعة الطريق حاملاً معه مفاجأة غير سارة للجميع، «رشدى» يستدعى النوم، فلا يطاوعه فيظل ساكنا على وضعه، وفجأة يطير الأتوبيس فى الهواء، يترك الأسفلت و«يحتضن» الرمال. يصحو الجميع على الصدمة، السائق فيما يبدو أخذته سنة من النوم، فاختلت فى يده عجلة القيادة، والنتيجة حادث مروع أصاب النجوم وهم عائدون، الراقصة «نادية فهمى» ماتت فى التو واللحظة، ماتت بعدما أنقذت «رشدى» من الموت عندما طلبت منه أن يترك لها المقعد لتنام، وبالفعل تحقق لها ما أرادت.. «نامت» ولكن للأبد. أما هو فقد كان نصيبه، إصابة بالغة فى قدمه أقعدته على كرسى متحرك لمدة شهور طويلة، وعندما نقلوه الى المستشفى لم يجدوا معه إلا «دبلة» وساعة و4 جنيهات فقط! - منين أجيب ناس لمعناة الكلام يتلوه - شبه المؤيد إذا حفظ العلوم وتلوه - الحادثة اللى جرت على سبع شرقاوي - الاسم أدهم.. لكن النقب شرقاوي - مواله أهل البلد.. جيل بعد جيل غنوه وما إن انتهى الراحل حسن الشجاعى أحد فرسان الاذاعة فى ذلك الوقت من قراءة هذه الكلمات، حيث كانت الاذاعة تستعد لإنتاج هذا العمل الدرامى الإذاعي الغنائى «أدهم الشرقاوى» إلا وسأل: أين محمد رشدي؟ فقالوا: مصاب فى قدمه بسبب الحادث، رد: إن كانت قدمه فى الجبس فالمؤكد أن حنجرته سليمة، وأنا أريد صوته ولا أريد قدمه، هذه الملحمة لا يغنيها إلا هو، وبالفعل «حملوه» على كرسى متحرك للإذاعة وبدأ التسجيل، وكما توقع «الشجاعى» استطاع صوت «رشدى» أن يحول الحكاية الى اسطورة، وبقوة وعبقرية صوته تحول «أدهم الشرقاوى» المجرم وقطّاع الطرق والقاتل المأجور - بحسب سير وتراجم التاريخ - إلى أسطورة، وبطل تاريخى يبحث عن «ضله» المظلومون والمقهورون، والمعذبون فى الأرض ليحتموا فى فروسيته المزعومة، التاريخ يذكر أن «أدهم الشرقاوى» مدون فى متحف الشرطة كمجرم مثل «ريا وسكينة»، وصحيفة الاهرام تنشر عنوانا رئيسيا فى صفحته الأولى بعد قتله «مصرع سلطان الأشقياء». أما صوت «محمد رشدى» فقد حوله الى فارس من الفوارس، وناصر للغلابة، ومقاوم للإنجليز، فهل صدق صوت «رشدى» وكذب صوت التاريخ فى هذه الملحمة؟ ربما! فى هذه الحلقة من سلسلة حوارات «أبى.. الذى لا يعرفه أحد» ذهبت الى عالم الغناء الشعبى الراقى الذى يصنع الأساطير، ومحمد رشدى أحد هؤلاء الصُناع، اتصلت بابنه طارق وببساطة وجدعنة ابن البلد، رحب على الفور، واتفقنا والتقينا فى شقة والده - فهو متزوج ويعيش فى شقة أخرى، حيث مازالت والدته - أطال الله عمرها - تعيش مع ذكريات رفيق العمر، استقبلتني بود، فى الصالة الرئيسية صورة لها مع رشدى، بجوارها صورة تجمعه مع عبدالرحمن الأبنودى وبليغ حمدى، وفوقهما برواز معلق بداخله «آية الكرسى». جاءت لنا بفنجان الشاى، ثم نظرت لصورته المعلقة وكأنها تناجيه أو تكلمه، ثم تركتنا وفى عينيها دمعة حائرة أظن أنها سقطت منها، بعدما غادرت المكان عائدة الى حجرتها حتى تترك لنا حرية الكلام، وبدأ «طارق» الكلام: «أبى.. فلاح بسيط وفقير.. نشأ فى بيئة أكثر بساطة، وأكثر فقراً فى مدينة «دسوق» بمحافظة كفر الشيخ، كان والده يعمل فى مهن بسيطة حتى يستطيع إطعام أطفاله الثلاثة «محمد - انشراح - صابرية» وعندما تأزمت الأمور مع أبيه طلب منه أن يساعده، فى صنعته التى كانت رائجة فى ذلك العصر، وهى صناعة «الطوب» وهى مهنة كانت شهيرة فى الريف المصرى، حيث يصنع «الطوب» من الطين حتى يستخدم فى بناء منازلهم المتواضعة، وكان فى نفس الوقت جدى حريصا على أن يحفظ ابنه القرآن الكريم، وهو ما تحقق له بالفعل فى «كُتّاب» القرية، فشل الابن فى مساعدة أبيه، لكنه نجح فى حفظ القرآن.. بعد ذلك انطلق الى عالمه الذى يحبه، وهو السهر فى الموالد وراء طرق الانشاد الدينى وحفظ التواشيح وأصوات المطربين، خاصة صوت الراحلة ليلى مراد، قلت له: وأين كان يستمع لصوت ليلى مراد؟ رد: فى السينما فى مدينة دسوق، كان يذهب ليقف على باب السينما حتى يستمع لصوتها وهى تغنى، ولا يستطيع الدخول، لأنه لا يمتلك قيمة «التذكرة»، كان يذهب كل ليلة ليقف على باب السينما، وعندما يفشل أو يبعد صوت ليلى مراد بعد غلق الأبواب، يعود من حيث أتى. وذات ليلة لاحظ عامل السينما وهو يمزق تذاكر الجمهور نصفين بعد دخولهم، بدأ فى تجميع أنصاف التذاكر الممزقة، ويعود بها الى بيته، ويظل طوال الليل محاولاً «لزقها» حتى ينجح فى تجميع تذكرة بصورة تبدو سليمة، ويعود بها فى الليلة التالية، مستغلاً الزحام على باب السينما، ويقدمها للعامل، فيأخذها على أنها سليمة ويسمح له بالدخول. ولد المطرب محمد رشدى فى 20 يوليو 1928 ورحل 2 مايو 2005، حفظ القرآن الكريم ثم التحق بمعهد فؤاد للموسيقى «معهد الموسيقى العربية فيما بعد» قدم للسينما 6 أفلام وتزوج مرتين، الأولى كانت من شارع محمد على الذى عاش فيه لفترة، ورزق منها بابنه الأول رشدى، وبعد انفصاله بعدة سنوات تزوج من زوجته الثانية التى أنجب منها «طارق وأدهم وسناء» كون مع بليغ حمدى وعبد الرحمن الأبنودى ثلاثياً غنائياً ساهم الى حد كبير فى انتشار وتجديد الأغنية الشعبية، توفى بعد صراع مع المرض عن عمر يناهز 76 عاماً بعد إصابته بالتهاب رئوى ومن قبله فشل كلوى، أما الأغانى فقد قدم العشرات التى تعد علامة بارزة فى الغناء المصرى والعربى. - الليل بينعس ع البيوت وع الغيطان - والبدر يهمس للسنابل والعيدان - يا عيونك النايمين ومش سائلين - وعيون ولاد كل البلد صاحيين - تحت الشجر يا وهيبة.. يا ما أكلنا برتقان - ضحكة عينك يا وهيبة.. جارحة قلوب الجدعان عدت للابن وقلت له: يبدو أن تعاونه مع صديقيه فيما بعد «الأبنودى وبليغ» أضاف الكثير له، رد قائلا: بالتأكيد.. وقبل التعاون الأول بينهم فى أغنية «عدوية». كانت هناك أغنية «قولوا لمأذون البلد» ثم جاءت الأغنية الرائعة «تحت الشجر يا وهيبة» التى كتبها الأبنودى ولحنها عبد العظيم عبدالحق، ثم توالت الأعمال بعد ذلك مع الأبنودي وانضم معهما «بليغ» من أول أغنية «عدوية» التى رفض عبدالعظيم عبدالحق تلحينها، قلت ولماذا رفض؟ قال: لأن كلمات الأغنية كانت تتغزل فى جمال «عدوية» تلك المحبوبة الجميلة لدرجة جعلت الحبيب يقرر ويطلب من المراكبية قائلا لهم: «أوعوا تحلوا المراكب/ والله يا ناس ما راكب/ ولا حاطت رجلى فى المية/ إلا ومعايا عدوية». ثم يضحك طارق ويكمل كلامه قائلاً: الراحل «عبدالعظيم عبدالحق» عندما قرأ الكلام رفض تلحينه، ويومها سأله أبى عن سر الرفض، قال له: «يا رشدى الأغنية تتغزل فى جمال فتاة اسمها عدوية، وأنا عندى فى البيت فتاة شغالة تعمل عندى ودميمة الشكل، لا منظر ولا صوت واسمها «عدوية»! فكيف ألحن للجمال وأنا عندى «القبح»؟ قلت: منطق يستحق التأمل! قال ومن هنا ذهبت الأغنية إلى «بليغ حمدى». قلت للابن: قبل هذه المرحلة دعنا نعد إلى مسقط رأسه فى مدينة «دسوق».. هل أهالى المدينة وقراها كانوا قد شعروا مبكراً بحلاوة صوته؟ قال: نعم.. فهو كان يغنى فى الموالد والأفراح، وذات يوم جاءت إلى مدينة دسوق «السيدة أم كلثوم» فى زيارة خاصة إلى الشخصية السياسية فى المدينة وقتها القطب الوفدى -نحن نتحدث قبل يوليو 1952- نائب مجلس النواب «فريد باشا زعلوك»، ويوم نجاحه بعضوية المجلس جاءت سيدة الغناء لزيارته وتقديم التهنئة له، يومها قدم لها أبى وأسمعها صوته، وأعجبت به جداً، وقالت هذا الصوت مكانه القاهرة، ومن بعدها قرر السفر للقاهرة، واستقل القطار من مدينة طنطا -وبالمصادفة- كان معه فى نفس القطار الصوت الصاعد عبدالحليم حافظ، حيث كان هو أيضاً فى طريقه للعاصمة، حيث الفن والغناء والإبداع والطرب، يومها كان أبى يحمل معه «العود»، ومن خلاله تعرف عليه «حليم» وصارت بينهما صداقة استمرت حتى رحيل العندليب. - قاله صباح الخير أنا جيت يا باشا - أنا جبت لك الفطور ونسيت أجيب لك العشا - قاله يا خوفى يا «بدران» ليكون ده آخر عشا - وفى لحظة داس على الزناد طلع العيار صايب - لا أكل فطوره.. ولا استنى ميعاد عشا. ومن عند هذا اللقاء التاريخى الملحمى المزعوم والمشكوك فى صحة بعض تفاصيله تاريخياً - طبقاً لما كتبه الكاتب صلاح عيسى والعديد من أساتذة السيرة التاريخية - عن علاقة «أدهم الشرقاوى» بصديقه «بدران»، فموال «رشدى» ظهر فيه «بدران» على أنه «خان» صديقه، وقتله بيده الأمر الذى حط من شأنه بين أهله، غير أن الوقائع التاريخية تقول إن «بدران» كان يعمل فى جهاز الشرطة، وأن قتل أدهم جاء بعد مواجهة مع البوليس وقتها وليس بيد «بدران» لكن ماذا فعل بدران أمام موال رشدى الذى أظهره كخائن؟ يرد: طارق أذكر أن «بدران» هذا تواصل مع أبى وشرح له الأمر، فذهب أبى إليه فى قريته.. واصطحبه إلى القاهرة وأعلن فى وسائل الإعلام أن بدران ينفى تلك الوقائع التى أدانته ودمرته نفسياً وأخلاقياً، وأكد له أنه غنى ما هو مكتوب ولم يضف من عنده. قلت للابن: أعرف أن أباك ترك مصر عام 1976 وطارق إلى انجلترا وعاش هناك حتى عام 1984، هذا الغياب ما أسبابه، رد وفى نبرة صوته حزن واضح قائلاً: كانت سنوات صعبة جداً مرت علينا كاسرة، حيث عاش أبى يغنى للمصريين والعرب هناك حتى يستطيع أن يوفر لنا الدخل المناسب، ولم يكن يعود لنا إلا كل 6 شهور وسبب ابتعاده فى ظنى هو الرئيس السادات. قلت ولماذا؟ قال بعد وصول السادات للحكم بدأ هناك اتجاه فى الإذاعة والتليفزيون -مرتبطاً بالسياسة طبعاً- ينحو نحو فلسفة السادات السياسية التى أطلق فيها العنان لتيار الإسلام السياسى حتى يواجه به باقى التيارات السياسية. ويبدو أن هناك من حسب أبى على التيار اليسارى، قلت له وهناك واقعة أخرى حكاها لى شاعر غنائى يعد من آخر الأجيال التى غنى لها الراحل، تقول الواقعة إن الرئيس الراحل طلب منه بعد ستة أشهر من قيام ثورة 23 يوليو أن يذهب للإذاعة، ويسجل أو يعيد بيان مجلس قيادة الثورة بصوته مرة أخرى، وبالفعل ذهب، وفى الاستوديو أثناء التسجيل تصادف وجود المطرب الشاب محمد رشدى. الرئيس السادات وقتها -شأنه شأن أعضاء مجلس قيادة الثورة- كان يرى أنه امتلك الأرض ومن عليها، وليس الإذاعة فقط. ويبدو أن «رشدى» لم يستقبله الاستقبال الذى يروق له، فسأله: من أنت؟ قال: أنا محمد رشدى فغنى، بعدها واصل السادات تسجيل بيانه وغادر المبنى، وإن كان «الموقف» الذى دار بينه وبين «رشدى» لم يغادر ذهنه.. ومرت السنوات وتغيرت الوجوه وتبدلت المقاعد ووصل السادات للسلطة.. ورغم أن رشدى غنى عام 1974 فى فرح ابنة السادات «لبنى» فإنه يبدو أن ما كان فى القلب ظل فى القلب، ولم يدخل رشدى قلب السادات، ولم يدخل أيضاً مصر إلا زائراً بداية من عام 1976 وحتى عام 1984، حيث كان يزور أولاده كل ستة شهوره مرة.. رد الابن بعدما استمع لتلك الحكاية قائلاً: ربما! قلت له: وماذا عن علاقته بالرئيس الأسبق مبارك؟ رد قائلاً: للأسف كانت علاقة كلها جفاء.. وأبى كان يسأل أحياناً.. ماذا فعلت له؟ لقد غنيت فى 30 حفلة غنائية بمناسبة ذكرى انتصار أكتوبر ولم أتقاض مليماً.. وقبل أكتوبر كنت أغنى للجنود بعد النكسة لرفع معنوياتهم، وغنيت فى حفلات ما بعد حرب 56، كل ذلك وعندما أصابنى المرض -هكذا كان أبى يشتكى حزنه لنا- لم يسأل عنى حتى بمكالمة هاتفية، فى هذه اللحظة دخلت علينا الأم -ست الكل كما يحلو للابن أن يناديها- وترد على كلام ابنها أثناء وضعها لفنجان مضبوط من القهوة قائلة: يكفى أن مصر كلها كانت تسأل عليه، ثم قالت: اتفضل يا أستاذ قهوتك، يكمل طارق كلامه قائلاً: «فى نفس الوقت نحن كأسرة لا ننسى موقف السيد صفوت الشريف، وزير الإعلام الأسبق فى نظام مبارك بجوارنا وأبى فى المستشفى وقتها قام بزيارة رسمية له وسأل فى نهايتها إدارة المستشفى عن فاتورة التكلفة، ردوا قائلين: فاتورة التكلفة العلاجية مرتفعة يا افندم، قال: مهما كانت لا يهم.. عليكم فقط أن ترسلوها إلى أمانة مجلس الوزراء.. وأنا سأجعل نفقات علاجه على الدولة، وبالفعل ما وعد به نفذه تماماً. قلت للابن: رغم قوة صوته وتميزه.. يحتار المرء أمام مشواره.. ويسأل: لماذا تأخر نجاحه أو نجوميته الغنائية؟ قال: الفقر فى بدايته ووصوله بمفرده للقاهرة فى مطلع شبابه. وحاجاته للمال حتى يستطيع أن يدفع «أجرة» الحجرة التى استأجرها فى حارة متفرعة من شارع محمد على، ثم الغناء وراء الراقصات، ثم فى الطريق «تزوج» زواجاً غير موفق، كان نتيجته الطلاق، ومحاكم ومشاكل وحرمانه من أن يرى ابنه -رشدى- أخى الاكبر، لدرجة أنه كان يقف فى الشارع بالساعات حتى يستطيع رؤيته، كل ذلك شتت ذهنه، وأربك حياته، وذات مرة حكى لى أن أباه زاره فى القاهرة، وعندما وصل وجده ينام فى بدروم فى شارع محمد على، فبكى وطلب منه أن يعود إلى البلد.. لكنه رفض وأصر على مواصلة الرحلة. - فى إيديا المزامير.. وفى قلبى المسامير - الدنيا غربتنى.. وأنا الشط الأمير - رمشك خطفنى من أصحابى.. وأنا واد صياد - من كان يقول البصة دى تصطاد صياد قلت له وأنا أستعد لمغادرة المكان.. كيف التقى بوالدتك وظروف زوجه الثانى؟ رد وهو يضحك قائلاً: كان ذاهباً لإحياء ليلة فرح فى «بولاق أبوالعلا» وقبل أن يبدأ وصلته مرت أمى من أمامه، «فخطفه رمشها» كما يقول فى الأغنية.. فمد رجله بغرض عرقلتها.. فنجحت هى «وعرقلته» بالزواج منه، وعاشت معه سنوات عمره الباقية، وهى تدرك قيمته وإبداعه، ووفرت له الجو المناسب للنجاح، ولم تشغله بتربية الأولاد ومتاعب تعليمهم.. وفرغته هو للفن.. وتولت هى تربيتنا وتعليمنا بالصورة التى كانت ترضيه وترضيها. قلت له: هل تتذكر أيامه الأخيرة فى المستشفى قبل الرحيل؟ رد وهو يحاول أن يزيح عن صوته نبرة الحزن الواضحة، دخل فى غيبوبة استمرت 45 يوماً تقريباً.. بعدها وفى تمام الساعة العاشرة مساء ليلة رحيله أبلغتنى إدارة المستشفى بالخبر، وكنت موجوداً بالمستشفى فقمت بالاتصال بالاستاد الراحل «الأبنودى» الذى جاء بعد 30 دقيقة بالضبط، ودخل عليه حجرته، وأنا انتظرت بجوار الباب، وسمعته يقول بعدما أمسك يده ووضعها على خده «خلاص.. يا صاحبى.. أنت والطويل وبليغ وحليم مشيتوا.. وسايبنى زى فرع شجرة فى صحرا» ثم بكى وأنا أبكى معه وتركنا الحجرة لمتابعة إجراءات الخروج والدفن، رحمة الله عليهم جميعاً. ومات «محمد رشدى» بعد رحلة عمرها 76 عاماً كانت ما بين العناء والغناء.. بين الفرح والبكاء، غنى فيها للوطن والحب والحياة، ثم فى نهاية الرحلة غنى كلمات فى أغنية قطر الحياة قال فيها: دنيا.. والله ولا الساقية/ دنيا.. مين اللى قال إنها باقية؟ وفى هدوء ورضا ترك «قطر الحياة» وحمل حقائبه ووضعها فى «قطر الرحيل» وانتهت الرحلة.