تكشف حوادث تسمم تلاميذ المدارس فى عدد من محافظات الجمهورية عن وجود سيل من التجاوزات فى صناعة وتداول الوجبة المدرسية، وهى التجاوزات التى كان ل«الوفد» السبق فى التحذير منها عبر عدد من التحقيقات، وكان آخرها تحقيقا نشرته «الوفد» فى 26 سبتمبر 2016 بعنوان «عودة المدارس بداية الرعب» أعقبه تحقيق صحفى آخر نشرته «الوفد» فى 21 نوفمبر عن الملايين المهدرة فى منظومة فساد التغذية المدرسية.. ولأن الوجبة فى مصر ليست ترفاً أو رفاهية، بل ضرورة لحل مشاكل التسرب من التعليم وعلاج سوء التغذية ومساعدة الأسر الفقيرة. طالب الكثيرون بإسنادها إلى جهاز الخدمة الوطنية بالقوات المسلحة، إلا أن ذلك لم يمنع استمرار منظومة الفساد! فى الوقت نفسه يشير تزامن حدوث حالات التسمم وامتدادها إلى عدة محافظات مؤخراً من سوهاج إلى المنوفية والسويس، وكذلك ارتفاع عدد المصابين إلى وجود فساد فى تلك المنظومة، وهكذا تحولت المنظومة التى بدأت بهدف نبيل وهو دعم تلاميذ المدارس صحياً وغذائياً، إلى «بيزنس» يربح البعض من ورائه الملايين، لاسيما أن هناك أطرافا عديدة مستفيدة من هذا الفساد تبدأ بالمورد وتشمل الاستلام والتخزين والتوزيع والرقابة الصحية والمالية فى مديريات التربية والتعليم. الأرقام والبيانات الرسمية والدولية تشير إلى أن ما يقرب من مليار جنيه تصرف سنوياً على وجبات الحلاوة الطحينية والبسكويت والجبن والفطيرة بالعجوة. وخلال الأعوام الماضية حصلت مصر على منح من الاتحاد الأوروبى تقرر ب60 مليون يورو فى العام الواحد من أجل تحسين تغذية الأطفال بالتعاون مع برنامج الأغذية العالمى، وذلك لتغذية 13 مليوناً و18 ألف طالب، وهو ما يعنى أن نصيب كل تلميذ فى كل وجبة مدرسية 36 قرشاً فقط! ورغم إنفاق ما يقارب المليار جنيه على الوجبة المدرسية لا يزال المئات من التلاميذ يصابون بالتسمم بسبب الوجبة المدرسية، وتم رصد وجود أمواس حلاقة وبنزين وكيروسين فى بعض مدارس محافظة الإسماعيلية والبحيرة، وهكذا تحولت الوجبة المدرسية التى كانت حلماً لملايين من التلاميذ إلى كابوس، وقد تتحول إلى أداة قتل فى غياب شبه تام وتوهان للمسئولين عن الرقابة الصحية والتعليمية والتموين والزراعة. ليست ترفاً والوجبة المدرسية فى مصر ليست ترفاً، بل ضرورة لحل مشاكل التسرب من التعليم وعلاج أمراض سوء التغذية ومساعدة الأسر الفقيرة.. ففى دراسة لمنظمة الأغذية والزراعة شملت 8 بلدان، تم إجراء مسح ميدانى على 18 مليون طالب من مختلف الأعمار والمستويات التعليمية، كانت النتائج مؤكدة أن برامج التغذية تحد من مخاطر تسرب الأطفال من المدرسة كما أنها تعمل على زيادة التعليم ومعالجة سوء الأداء المدرسى، بسبب سوء التغذية والجوع ومن ثم منع تفاقم مشكلة نقص التغذية.. وبالنسبة لمصر فالبيانات الرسمية تؤكد ارتفاع نسب الحضور لأكثر من 90٪ أيام توزيع الوجبات بما يرفع عن كاهل الأسرة عبء توفير الغذاء الصحى، وحل مشاكل سوء التغذية، ويرصد تقرير لمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار حول تكلفة الجوع فى الآثار الاقتصادية والاجتماعية لنقص الغذاء للأطفال فى مصر والتى سترتفع بنسبة 22٪ بما يعنى وصولها ل5.9 مليار جنيه حتى عام 2025 بعدما كانت 4.5 مليار جنيه. وبحسب التقرير ستقدر التكاليف الصحية لنقص التغذية عند الأطفال بنحو 1.2 مليار جنيه وهى تكاليف علاج الأمراض الناجمة عن نقص التغذية، إضافة إلى ما تسببه فى وفاة 11٪ من الأطفال، مما يوضح أن خفض نسب نقص التغذية يساعد فى تقليل الأعباء الملقاة على عاتق القطاع العام ويقلل من التكاليف التي تتحملها الأسر، خفض يولد مدخرات سنوياً بمقدار 722 مليون جنيه بحلول 2025 بحسب تقرير مركز المعلومات.. وكذلك خفض معدل التقزم إلى 10٪ والوزن ل5٪ وبما سيولد مدخرات سنوية من 7 إلى 9 مليارات جنيه كنتائج طبيعية ومنطقية، خاصة فيما يتعلق بالمنافع الاقتصادية من انخفاض لعدد الوفيات ومعدلات التسرب وزيادة الإنتاجية وجميعها أمور وأسباب وتداعيات تستدعى اعتبار نقص التغذية قضية أمن قومى.. وأكدت دراسة أصدرها مركز المعلومات واتخاذ القرار بمجلس الوزراء من خلال استطلاع للرأى أجرته وزارة الزراعة شمل 750 تلميذاً من صفوف مختلفة بالمرحلة الابتدائية.. فى ثلاث مناطق هى المرج والسيدة زينب ومصر القديمة. وتبين أن 80٪ من التلاميذ يتناولون الإفطار بشكل غير منتظم وأن 69.6٪ يتناولون الوجبة المدرسية بانتظام، و14.7٪ من التلاميذ يتناولونها أحياناً.. ومن هنا أيضاً تتجسد أهمية الوجبة فى بناء جيل سليم البنيان شريطة ألا تكون مسمومة أو غير مطابقة للمواصفات أو تصنع وتورد من قبل منتجي «بير السلم» أو بمساعدة مسئولى التربية والتعليم بمن يعملون مع الموردين من تحت الترابيزة ثم يرجعون حالات التسمم إلى الإيحاء النفسى أو مزاعم المؤامرات الإخوانية وهو ما حدث خلال الأعوام الماضية! والمعروف أن البرنامج القومى للتغذية المدرسية بدأ منذ الأربعينيات وتوقف وأعيد إحياؤه عام 1997 لتغذية أطفال المدارس الابتدائية وبعض المدارس الثانوية وخصوصاً فى المناطق الأشد فقراً، وللآن لم يتم تعميمه على كل تلاميذ المدارس بسبب نقص التمويل الحكومى أو لمشاكل عديدة واجهت الوجبة ذاتها، تبدأ بعدم جودتها وجعل مصيرها سلة المهملات أو عدم وصولها بشكل منتظم لعدد من المدارس، إضافة لأم الكوارث وهى تكرار حدوث حالات تسمم التلاميذ بسبب تناول الوجبات المدرسية، وهو ما تأكد ودفع وزير التربية والتعليم السابق محمود أبو النصر إلى إلغاء وجبة اللبن لسرعة فساده وقصرها على الوجبات الجافة مثل البسكويت والفطيرة.. إلا أن حالات التسمم لا تزال مسلسلا مستمرا كل عام دراسى.. ويتصدر أسبابها هذه المرة «البسكويت» وهو ضمن 4 أنواع رئيسية مكونة للوجبات الرئيسية والتى تقدم لتلاميذ رياض الأطفال والمرحلة الابتدائية وطلبة الإعدادية نظام اليوم الكامل وتعليم الفتيات بالفصل الواحد، وهناك الوجبة الجافة وتقدم للثانوية والإعدادية الرياضية والتربية الخاصة ومدارس الثانوى العام، وكذلك وجبة مطهوة وتقدم للمدارس الفكرية والداخلية وبعض مدارس المتفوقين. وهناك الفطيرة المحشوة بالعجوة كنوع رابع تنتج بمقتضى بروتوكول تعاون بين وزارتى التربية والتعليم والزراعة وبدايتها كانت بمحافظة الفيوم منذ عام 1997 و1998 وأصبحت تغطى 15 محافظة بقيمة حوالى 140 مليون جنيه عام 2015 لمحافظات تتعدى فيها نسبة الأنيميا والتقزم ل20٪ تكون مواصفاتها وفقاً لاحتياجات التلاميذ والطلاب فى كل شريحة عمرية على اعتبار أنها وجبة علاجية فى المقام الأول للعلاج من الأنيميا تتعدى ال30٪ بين تلاميذ مصر تكون الوجبات مكملة لاحتياجاتهم، ولذلك وكما تقول الدكتورة نادية عبدالمطلب أستاذ الأغذية الخاصة بمعهد تكنولوجيا الأغذية: كانت الوجبات المقدمة لتلاميذ الوادى الجديد مضافا إليها ملح اليود لعلاج تضخم الغدة الدرقية وهى منتشرة هناك، ولذلك كان يشارك فى وضع مواصفات الوجبات معهد التغذية وخبراء التغذية والمعامل المركزية بوزارة الصحة وأساتذة طب الأطفال ومراقبة الأغذية، وفيما مضى كان هناك دور أيضاً لمصلحة الرقابة الصناعية.. كما أن الوجبات تختلف على حسب نوع التعليم، فالأزهرى يختلف عن الحكومى وعن المدارس الداخلية، فنجد الوجبة المدرسية فى التعليم الأزهرى الجاف منها تتكون من بيضة مسلوقة تزن 50 جراماً وقطعة حلاوة طحينية بزنة 50 جراماً وعدد 2 رغيف فينو وزن الواحد 50 جراماً وبرتقالة وقد تستبدل بموزتين وتغلق بكيس بلاستيك، بينما وجبة البسكويت فكانت طبقاً للمواصفات التى وضعها المعهد القومى للتغذية التابع لوزارة الصحة واستبدلت العجوة بجوز الهند لتدنى جودة التمر المستخدم فى البسكويت، كما تختلف زنة العبوة الخاصة بالأزهر عن وزارة التربية والتعليم، حيث يصل وزنها 100 جرام فى الأزهر، و80 جراماً فى مدارس وزارة التربية، وأيضاً يشترط الأزهر فى وجباته استخدام المسلى الطبيعى وليس الزيوت النباتية كما فى وزارة التربية والتعليم.. ورغم أن التربية والتعليم تشارك القطاع الخاص فى منظومة التغذية المدرسية من خلال برنامج الأغذية العالمى، وعلى عكس المنظومة فى التعليم الأزهرى والذى لا يحصل على أى منح أجنبية، إلا أن الواقع يؤكد أنها أقل جودة من الوجبة الأزهرية وأن الفساد يعشش ولايزال فى وجبات التربية والتعليم التى لا تزال تصيب تلاميذ المدارس بالتسمم الجماعى بطول محافظات مصر. تكرار حالات تسمم تلاميذ المدارس بالوجبات المدرسية حتى بعد أن أصبح محافظ الإقليم هو المسئول الأول عن تداولها وتوريدها.. بعد سنوات كانت المسئولية تائهة ما بين 4 وزارات هى: الصحة والتربية والتعليم والتموين والصناعة.. تكرار حالات التسمم رغم أن جهاز الخدمة الوطنية التابع للقوات المسلحة مسئول عن التوريد لحوالى 22 محافظة بحسب كلام «رندا عبدالفتاح حلاوة» رئيس الإدارة المركزية لعلاج مشكلة التسرب التعليمى والتى أكدت أهمية الوجبة المدرسية، خاصة فى المحافظات الأشد فقراً، ولذلك كانت مراعاة البعد الاجتماعى المحدد لنوعية الوجبة، فهى فى الصعيد الأفضل والأغنى غذائياً مثلاً، ولذلك اللجنة المسئولة عن متابعة الوجبات المدرسية أصبحت تضم وزارة التضامن الاجتماعى.. ولذلك دائماً ما تتخذ الوزارة الإجراءات القانونية وتحويل المخالفين للنيابة وخصوصاً ما يتعلق بأماكن تخزين تلك الوجبات بالمدارس، وما قبل ذلك مراقبة وضمانات أن تكون المصانع الموردة مسجلة بشكل قانونى ولم تخالف ولم تدلس أو تغش.. وتشير إلى مسئولية المحافظة بعد إتمام الإفراج الصحى من جهة وزارة الصحة التى تراقب المصانع ومنها تذهب لمخزن المحافظة ويتم قبل التوزيع فى المدارس أيضاً سحب عينات من جهة وزارة الصحة، للتأكد من استمرار سلامتها.. وعندئذ تبدأ مسئوليات المدارس، ولذلك فالإفراج الصحى فى المصانع والمخازن لضمان سلامة الكشف الظاهرى. ورغم كلام وتأكيدات مسئولة التربية والتعليم.. فإن حالات تسمم الوجبات المدرسية عرض مستمر.. والذى أكدت عليه الدكتورة مايسة حمزة مدير الرقابة على التغذية بوزارة الصحة وأرجعته إلى أن 40٪ من المخازن داخل مدارس التربية والتعليم على مستوى الجمهورية غير صالحة للتخزين وفقاً للاشتراطات الصحية وأنها تعدت نسبة ال70٪ خلال السنوات الماضية، ولولا شدة الاشتراطات من قبل وزارة الصحة عاما بعد الآخر لما انخفضت تلك النسبة والتى لا تزال أيضاً كارثية، ولذلك مسئوليتنا كوزارة صحة تظل حتى خروج الوجبة من المصنع إلى المخازن وبعد ذلك تبدأ مسئولية المورد ومع ذلك يوجد مفتشو أغذية فى الكمائن المرورية، إلا أننا لاحظنا تجاوزات خطيرة فى المخازن ولذلك خاطبنا كلا من وزير التربية والتعليم ومشيخة الأزهر بشأنها وأهمها أن العامل داخل مخزن المدرسة لا يحمل أى شهادة صحية والتهوية غير موجودة وأماكن التخزين غير مطابقة للمواصفات. الخبراء والمختصون يؤكدون ضرورة استمرار الوجبات وأن قرار الإيقاف المؤقت «خطوة» ولكنها ليست الحل أو ستقضى على فساد تلك المنظومة، وإنما الأجدى معرفة الأسباب الحقيقية وراء حالات تسمم التلاميذ بالوجبة المدرسية، والأجدى حتى قبل البحث عن بدائل ضرب منظومة الفساد فى الوجبة المدرسية لاحتياج التلاميذ وأسرهم لها مع تدنى المستويات المعيشية والاقتصادية للمواطنين.. ولذلك جاء القرار الاحترازى للدكتور طارق شوقى وزير التربية والتعليم بالإيقاف المؤقت لتوزيع تلك الوجبات، لأن هناك «لغزا» بحسب تعبيره يجب أن يحل قبل إعادة صرفها لتلاميذ المدارس، خاصة مع صعوبة اتخاذ قرار نهائى بمنع إنتاجها واستكمال توزيعها نظراً لأبعاد أخرى.. ولذلك كان الأجدى وحتى نعرف أبعاد القضية وقف استمرار نزيف حالات تسمم التلاميذ، خاصة أن أطرافا كثيرة قد تكون وراء ما يحدث بعدما تعددت الحالات وتزامنها وتنوعها أو قد يكون وراءها شىء آخر له أبعاد أخرى.