المشهد الأول.. فى طريقى لمحاورة رائد من رواد الموسيقى العربية فى مصر، بل والوطن العربى كافة المُلحن الكبير «محمد سُلطان»، أحد رواد الموسيقى العربية، وجدت ذهنى حبيس أسئلة كثيرة لا أعرف من أين وكيف أبدأ، فهو ليس ملحناً عادياً ليس لانتمائه إلى جيل من المُلحنين العظماء فحسب، وإنما لاهتماماته المتعددة، وخبرته الواسعة فى جميع المجالات. بارتجاف شديد تتبعه رغبة مُلحة لمعرفة «محمد سلطان» الإنسان وليس المُلحن الكبير، دققت الجرس، فتحت لى الخادمة التى كانت على علم بالموعد وقالت: «تفضلا من هنا»، وبعد مرور دقائق معدودة تمكنت فيها من تفحص جدران وأركان منزله الأنيق المُنبعث منه رائحة الزمن الجميل ونسمات عبق الماضى، على المناضد والحوائط ترى صورة الفنانة الكبيرة الراحلة فايزة أحمد، وبجانبها عدد كبير من الجوائز والأوسمة التى حصل عليها طوال مسيرته الفنية، وفى الجانب الآخر ترى صورة للزعيم الراحل محمد أنور السادات الذى تجمعه به ذكريات كثيرة، إذ فجأة يُطل علينا بابتسامة عريضة تبعث بداخلك الاطمئنان وتزيل الرهبة التى كانت بداخلى، وبترحيب حار يصافحنا قائلاً: «أهلاً بكم وبصحفيى صحيفة الوفد الذى أعتز بها»، ورفض البدء فى الحديث إلا بعد تقديم واجب الضيافة. أثناء محاورته لن تستطيع أن تستفزه أو تخرج ما فى جعبته إلا بأمره، ومن ثم يصعب معه توجيه دفة الحوار، فهو إنسان يحمل معه أخلاقيات الزمن الجميل التى نسمع عنها، فأدلى برأيه فى شكل الأغنية المصرية الآن بمصداقية شديدة دون ثرثرة أو تجريح فى أحد، مستخدماً كلمات راقية، مثل ألحانه العذبة التى تسكن القلب. بصوت شجى وعيينن تملؤهما الحسرة « بعد السيدة أم كلثوم وعبدالحليم حافظ ومحمد عبدالوهاب مصر أصبحت مفتقرة للموهوبين الحقيقيين بعد أن كانت رائدة الفنون فى العالم العربى»، هكذا بدأ الملحن الكبير «محمد سلطان» حديثه معرباً عن استيائه بالمستوى الهابط التى وصلت له الأغنية المصرية الآن. ولأنه مؤمن بأن مصر ولادة، يأمل «سلطان» أن يأتى جيل آخر يصعد بالأغنية المصرية وينتشلها من براثن الهبوط ويرتقى بالذوق العام. «سُلطان» حصل على العديد من الجوائز والأوسمة، ومؤخراً تم تكريمه من قبل وزارة الثقافة على مسرح الهناجر بدار الأوبرا المصرية، ومن معرض الكتاب، ولكنه يعتبر أن جائزته الأولى والأخيرة هى حب الناس. مرّت الأشهر والسنوات، هل ما زالت ذكريات الماضى تداعب حنين المُلحن الكبير محمد سُلطان؟ - بعد تنهيدة طويلة نمت عن اشتياقه للماضى، قال: الماضى جزء لا يتجزأ من حياتى، والحاضر ما هو إلا لحظات عابرة، وأنا إنسان عاطفى ودمعتى قريبة لأن بداخلى فناناً والفنان لديه حس مرهف، وأنا عايش على الماضى وذكرياته، وكثيراً ما تدمع أعينى عندما أتذكر موقفاً مع صديق ما أو زوجتى الراحلة الفنانة فايزة أحمد. نريد أن نعرف شكل حياتك الآن، كيف يعيش المُلحن محمد سُلطان؟ - أنا إنسان متواضع جداً أمارس حياتى بشكل طبيعى بعيداً عن المبالغة، أحب أن أمشى وسط الناس، ويكون فى غاية سعادتى، عندما يصافحونى فى الشارع. ولأننى فنان، يجب أن أكون إنساناً مثقفاً، لذا اقرأ كثيراً فى كافة المجالات، لأنى مؤمن بأن الإنسان بيتعلم أشياء جديدة لآخر لحظة فى العمر، وكذلك فى قراءة القرآن الكريم، فأنا لا أبحث عن الله فى كلمات الخطب، وإنما بين طيات كتبه. بصفتك مُلحناً مخضرماً عاصرت زمن جيل العمالقة.. كيف ترى حال الأغنية المصرية الآن؟ - تبدلت ملامحه التى كانت يكسوها الفرحة فجأة وبصوت غاضب، قال: أشعر بالخزى على حال الأغنية المصرية الآن، نظراً للمستوى الهابط التى وصلت له، فالأغنية أصبحت مفتقرة لهويتنا الشرقية الأصيلة التى تربينا عليها، فغاب أهم عنصرين، وهما الموهبة المتمثلة فى المُلحن، والمؤدى المتمثلة فى المطرب، فغابت الأغانى الكلاسيكية وحلّت مكانها الأغانى السريعة التى تستمر لفترة قصيرة. المُلحن يتحمل جزءاً كبيراً من المسئولية فى النهوض بالأغنية المصرية، ولكن للأسف مصر أصبحت مفتقرة للمُلحنين الموهوبين، فجميعهم يحاولون طمس الهوية الشرقية عن طريق اعتمادهم على المقامات الغربية التى يسرقونها فى تلحين أغنية جديدة بعد أن أضاف لمساته عليها وحذف منها بعض الشىء، لأن ليس لديهم جديد يقدمونه أو بالمعنى الصحيح ليس لديهم الموهبة. ولكنى مؤمن بأن مصر ولادة مثل ما أنجبت عباقرة من قبل، قادرة أيضًا على إنجاب جيل آخر يفوق جيل الزمن الجميل يصعد بالأغنية المصرية وينتشلها من براثن الهبوط، فأنا أتمنى أن مصر يكون فيها نوع من الإنعاش الموسيقى لأننا جميعاً زائلون، لكن هى ستظل باقية. ولماذا لم يتواجد «محمد سلطان» على الساحة الفنية الآن لإنقاذ الأغنية المصرية؟ - كما قُلت سابقاً، مصر مفتقرة لأهم عنصرين وهما المُلحن والمؤدى، فبعد أن لحنت لكبار المطربين أمثال فايزة أحمد، وسعاد محمد وغيرهما من المطربين الكبار، لمن سوف ألحن؟، لذا فضلت أن أترك ذكرى جميلة لجمهورى الكبير بالألحان التى قدمتها وساعد فى نجاحها حنجرة كبار المطربين الذين تعاونت معهم. فالموهبة الحقيقية لا تندثر مع العمر، وأكبر دليل على صدق قولى، أن الأغانى التى تتردد فى الشارع، وعلى محطات الراديو وشاشة التلفاز هى الأغانى القديمة، أما الجديدة فسُرعان ما يرحل بريقها بعد شهر وليس أكثر، وتبقى الأغانى الكلاسيكية الشجية القديمة خالدة فى الأذهان. * تم تكريمك مؤخراً من وزارة الثقافة ومعرض الكتاب.. ماذا يمثل لك هذا التكريم؟ - تم تكريمى كثيراً وحصلت على العديد من الجوائز والأوسمة، ولا شك أن هذا شىء يسعدنى لأنه اعتراف من الدولة بموهبتنا، ولكنى أعتبر أن جائزتى الحقيقية هى حب الناس. قدمت الفنان الكبير هانى شاكر، ونادية مصطفى، ومدحت صالح، ومحمد ثروت وغيرهم، أليس هناك أصوات غنائية متميزة كى يقدمها «سلطان» الآن؟ - بصراحة شديدة لا أريد أن أظلم أحداً، فمصر مليئة بالأصوات المتميزة، ولكن ظلمهم الزمن لأنهم نشأوا فى بيئة معتمة، فلا يوجد مُلحن ولا شاعر قادر على تقديم شىء لهم يظهرهم أو يسطر أسماءهم ضمن صفوف جيل العمالقة، فحالياً لا توجد أغنية جديدة قادرة على لفت انتباهى لها. هل ترى أن نقابة الموسيقيين أغفلت دورها فى حماية التراث الشرقى؟ - بموضوعية شديدة، أجاب: دور نقابة الموسيقيين هو توفير حماية كريمة لصناع الموسيقى وأبناء النقابة الذين أثروا الفن بإبداعاتهم من خلال صرف إعانات فورية، والحفاظ على التراث الشرقى فى الأغنية المصرية، ولكن لا يمكننا أن نلقى المسئولية كاملة على عاتق نقابة الموسيقيين، فالإذاعة المصرية لم تنتج حتى الآن موسيقاها الخاصة. ما رأيك فى برامج اكتشاف المواهب الغنائية المنتشرة على الساحة الآن؟ - باستهجان شديد أجاب: برامج اكتشاف المواهب فضيحة كبيرة وشىء مثير للسخرية، فلا هدف لها سوى أن تدر مكاسب طائلة من خلال الإعلانات، فالمنتج يعتمد على مطربات جميلات، أو يجلب مطربين يحظون بشعبية كبيرة للإدلاء بآرائهم فى المواهب الجديدة، مع العلم أنهم فى حاجة لمن يمتحنهم أولاً قبل أن يدلوا برأيهم فى غيرهم، أما الذى يحق له أن يختار ويتولى اكتشاف المواهب فهم الملحنون القادرون على تحديد خامة الصوت وجودتها، وقديماً كنت أتولى مهمة اختبار الأصوات فى الإذاعة بصحبة الملحن حلمى بكر، من خلال لجان الإذاعة والتلفزيون لأنهم يعرفون جيداً أنها مهمة مسئول عنها الملحن وليس المطرب. برأيك أسباب غياب الأغانى الكلاسيكية الشجية، واستبدالها بالقصيرة؟ - بانفعال يصحبه غضب شديد، قال: لما يكون فى مصر مطرب أولاً يتمكن من تأدية الأغانى القصيرة، نبحث بعد ذلك عن مطرب يؤدى الأغانى الكلاسيكية الطويلة، حتى الأغنية القصيرة لم نجد مطرباً جيداً يقدمها ولا ملحناً يعزفها، فلا بد أن نحافظ على اللون الشرقى المصرى. ما الألحان القريبة من قلب الموسيقار الكبير «محمد سلطان»؟ - الله جميل يحب الجمال، وأنا بحب الجمال فى كل شىء، ولكن الجمال المُغلف بالثقافة، فلا شك أننى بكون سعيداً جداً إذا استمتعت للحن جيد، لأننى بتمنى الأفضل لمصر، وكما قلت سابقاً نحن زائلون لكن هى باقية، ولكن مع الأسف هناك فرق كبير بين الجيل الحالى والماضى، فأنا وبليغ حمدى ومحمد عبدالوهاب نعشق تراب مصر ويتجلى ذلك فى أعمالنا فنحن كنا نعمل بحب وبأمانة شديدة، وأكبر دليل على صدق قولى أن هذه الألحان ما زالت موجودة الآن، غاب بليغ حمدى وعبدالوهاب ولكن ظلت أعمالهم باقية. ما رأيك فى الأغانى الشعبية المنتشرة فى الشارع المصرى الآن؟ - الأغنية الشعبية معروف أنها تعبر عن حال الشارع المصرى، ومعدن الحارة المصرية الأصيلة، ولكن الموجود حالياً لا يمت للشارع المصرى بصلة ولا بثقافة المصريين، فجميعهم الآن يرددون كلمات ركيكة ومؤسفة، حتى الأغنية الشعبية اندثرت بعد محمد العزبى، ومحمد قنديل، ومحمد رشدى وغيرهم من المطربين الكبار الذين عبروا عن حال المصريين فى أغانيهم. بعد واقعة شيرين وعمرو دياب.. كيف اختلفت ثقافة المطربين مقارنة بجيل العمالقة؟ - لا تعليق، لا أحب أن أدلى برأيى فى مثل هذه السخافات والحماقات. لاحظت صورة الزعيم الراحل محمد أنور السادات تزين جدار منزلك؟ هل أنت متابع جيد للسياسة؟ - الفنان باعتباره عضواً فى المجتمع، يجب أن يكون عضواً له نضوج ولديه انتماء سياسى، فأنا مثل أى فنان مهتم بالمشهد السياسى، وأنا أعشق الرئيس الراحل محمد أنور السادات، لأنه كان فناناً حقيقياً يحب الفن والفنانين، والشخص الذى يحب الفن لديه حس مرهف ويشعر بمشاكل وهموم الشارع المصرى، وبحال الفقراء، لهذا أحببته جداً، وفى الحقيقة هو الآخر بادلنى تلك المشاعر، فقد دعانى فى أحد الأيام فى استراحة القناطر الخيرية وأخطرنى أن أجلب معى العود الخاص بى حتى أصدح له كل ما لذ وطاب من الألحان الشجية الكلاسيكية، وطلب منى أن أعزف له موشح العيون الكواحل الذى تغناها بصوته الأجش، ثم طلب منى قبل أن أغادر تلحين أوبريت «مصر بلدنا» الذى شارك فى بطولته محمد العزبى، وهانى شاكر، ومحمود شكوكو، وغيرهم من المطربين الكبار. وكيف ترى المشهد السياسى الحالى فى عهد الرئيس محمد عبدالفتاح السيسى؟ - أقولها بكل أمانة أحاسب عليها أمام الله، هذا الرجل عاشق لتراب مصر ولشعبها، ومصر فى حاجة لمثل هذا الرجل الذى يعتبر صمام الأمان لها ولأهلها. ومصر إن شاء الله ستكون كبيرة على يديه ولكن مزيداً من الوقت والصبر. دعنا كى تكون «الخاتمة مسك».. ونختتم هذا الحوار الشيق برفيقة عمرك الفنانة الكبيرة الراحلة فايزة أحمد.. لحنت لفايزة جميع ألوان الغناء الكلاسيكية والموشح والقصيدة وغيرها، برأيك أيها أبدعت؟ - فايزة، رحمة الله عليها، صوت لن يتكرر ولا يختلف عليه اثنان، فهى من الأصوات الخارقة، ولا أقول ذلك لأنها زوجتى وحبيبتى وأم أولادى، ولكن هذه الحقيقة، فالسيدة أم كلثوم كانت كثيراً ما تحادثها تليفونياً وتمدح فى صوتها وأغانيها، وقال الموسيقار الكبير عبدالوهاب أمام أحد الأدباء، منهم الكاتب أنيس منصور ويوسف إدريس أن فايزة صوتها مثل الماس غير قابل للكسر. هل هناك امرأة نجحت فى تحريك مشاعر «محمد سلطان» بعد رحيل الفنانة فايزة أحمد؟ - أجاب باستهجان شديد: كيف؟ فهى الحب الحقيقى فى حياتى، وأنا أحيا على ذكراها. ما الأغانى التى تعشقها بصوت الراحلة فايزة؟ - بثقة شديدة قال: كل أغانى فايزة جميلة ومبدعة، تسكن القلب وتملؤك حباً وحناناً، ولكن الأغنية التى تأثرت بها هى: «ست الحبايب»، لأنها متعلقة بالأمومة، فما زلت لحد الآن أبكى وأنا أسمعها، وأعتقد أن هذه الأغنية أثرت فى الناس جميعاً. فى النهاية.. نود أن نطمئن على صحتك؟ - الحمد لله أنا بخير مؤخرًا أجريت جراحة ناجحة لتغيير المفصل، وأشعر بتحسن كبير، وأشكر الجمهور وكل الزملاء الذين حرصوا على الاتصال بى.