ما الذى يدفع كاتباً أن يتخلى عن اسمه، ويمهر كتاباته باسم مستعار، ما الذى يجبره لأن يكتب من خلف ستار؟ إن لم يكن الكُتاب يكتبون من أجل أن تعرفهم الناس، فلماذا إذاً يكتبون؟ هل من السهل أن يتخلى مبدع عن نجاح رواية، أو يتجاهل كاتب متابعة مئات القراء لمقال هو صاحبه، فيهدى ببساطة نجاحة لاسم وهمى. كثيرون هم الكُتاب الذين فعلوا ذلك، وظلوا لفترات ليست بالقصيرة يتنكرون، ويوقعون بأسماء وهمية لكتاباتهم، ولكن فى النهاية غالبيتهم اكتشف أمرهم، فإما كشفوا هم عن ذواتهم، وإما كشفتهم الصدفة. ويروى لنا تاريخ المبدعين، الكثير من الحكايات المثيرة، عن كُتاب كتبوا بأسماء منتحلة، بدوافع متباينة، حيث تعددت أسبابهم فى التخفى، والتى كان أبرزها الالتفاف حول أشكال الرقابة المجتمعية وأحياناً السياسية. فى عام 1886 ولدت فى مصر، وتحديداً فى حى الجمالية، فتاة بدت منذ البداية مختلفة، لأب كان رجل قانون، وشاعراً وأستاذاً للغة العربية، وأحد مؤسسى الجامعة المصرية. لهذا لم يكن غريباً عليه، أن تكون ابنته هى أول فتاة مصرية تحصل على الشهادة الابتدائية، وتجيد اللغتين الإنجليزية والفرنسية، لكن الفتاة لم يكن لها أن تسير عكس التيار فى كل الاتجاهات، لهذا تزوجت وهى فى سن صغيرة، من شيخ العرب عبدالستار الباسل، رئيس قبيلة الرماح الليبية، وسكنت قصر الباسل بمركز إطسا محافظة الفيوم. كانت هذه السيدة الصغيرة قد ألمت بقراءات كثيرة وثقافات متنوعة، أهلتها لأن تكون كاتبة مميزة، لكنها لم يكن سهلاً عليها أن تكتب، وليس من السهل، أيضاً، ألا تكتب، فما كان منها إلا أن اتخذت اسماً مستعاراً، تكتب خلفه، وكانت البداية لمبدعة ملأت شهرتها الدنيا، فكانت تكتب تحت توقيع « باحثة البادية». إنها ملك حفنى ناصف، رائدة الإصلاح الاجتماعى، فى مصر والعالم العربى فى أواخر القرن ال19، وبدايات القرن العشرين، وهى أديبة وداعية للإصلاح الاجتماعى، وإنصاف وتحرير المرأة، وهى أول امرأة مصرية جاهرت بدعوة عامة لتحرير المرأة، والمساواة بينها وبين الرجل. وإن كانت ملك حفنى ناصف، كتبت تحت توقيع مستعار فى نهاية القرن ال19، حرجاً من وضع زوجها الاجتماعى، فإن هناك امرأة أخرى جاءت بعدها بأكثر من عشرين عاماً، وكتبت، أيضاً، تحت اسم مستعار خوفاً من الأب، الذى رفض خروجها من المنزل، وهى طفلة فى سن السابعة، للالتحاق بالمدرسة، بعدما تلقت تعليمها الأول فى كتّاب القرية، وحفظت القرآن الكريم، حيث كانت تقاليد الأسرة تأبى خروج البنات من المنزل، حتى إنها ذهبت للمدرسة فى سن كبيرة، دون علم الأب بمساعدة الأم والجدة، هكذا أكدت فى سيرتها الذاتية فى كتابها الأدبى البديع «على الجسر»، ذلك الجسر الذى كانت تقصد به المسافة ما بين الحياة والموت، عندما يقف الإنسان فى النهاية ينظر لكل ما فات، وينتظر كل ما هو أت. هذه الفتاة استطاعت بعد ذلك أن تترك وراءها أكثر من أربعين كتاباً، وأن تكون أول امرأة تحاضر بالأزهر الشريف، وأول امرأة عربية تنال جائزة الملك فيصل فى الآداب والدراسات الإسلامية، واستطاعت بعد سنين من المعاناة أن توقع باسمها الحقيقى كل أعمالها فتكتب، عائشة عبدالرحمن بعدما ظلت لسنوات توقع باسم «بنت الشاطئ»، خوفاً من بطش أبيها، واختارت لقب «بنت الشاطئ»؛ لأنه كان ينتمى إلى حياتها الأولى على شواطئ دمياط التى ولدت بها، وعشقتها فى طفولتها. قهر المرأة فى مصر والعالم العربى، لم يقف عند إرغام النساء على التوقيع بأسماء مستعارة، فهذا القهر أجبر رجالاً أيضاً على التوقيع بأسماء نساء، وفى هذا حكاية، يحكيها الكاتب الكبير أنيس منصور، الذى ظل لفترة طويلة يحرر صفحة كاملة فى مجلة «الجيل» موقعاً مقالاته باسم «سلفانا مانيللى»، فعندما أُنشئت المجلة كان المسئولون عنها يبحثون عن محررة، تهتم بالأزياء فلم يجدوا، حيث كانت المرأة ما زالت حبيسة البيت، ومهنة الصحافة مهنة ذكورية، فاضطر الكاتب الكبير أنيس منصور أن يحرر الصفحة بنفسه، ولكن تحت اسم نسائى. كذلك توقيع «زوجة أحمد»، وهو الاسم الذى ارتبط به كثير من النساء فى مصر والعالم العربى، وظلوا يتابعونه بشغف، عبر مئات المقالات الموجهة للمرأة، والتى اتضح فى النهاية، أنها ما هى إلا كتابات للكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس. وبعدما ذاع سر صاحب التوقيع، وتحت ضغط النجاح الذى حققته المقالات، كان طبيعياَ أن يستثمر عبدالقدوس هذا النجاح، فأصدر روايته الشهيرة «زوجة أحمد»، لتأتى الرواية مؤكدة للقراء، مدى الاحترافية التى يمكن أن يصل لها كاتب، حال ما يمتلك أدواته جيداً، فعندما تقرأ الرواية، لا يمكن بأى حال، أن تتصور أن من يصف مشاعر هذه المرأة، هو فى الحقيقة رجل. لكن الأمر لا يخلو من طرفة فى هذا الشأن، فبعد مرور السنوات، وتحرر المرأة، يبدو أن النساء أصبحن أكثر حظاً من الرجال فى الصحافة، وها هو الكاتب إبراهيم الوردانى، يروى أنه فى بداية حياته الأدبية أصابه الملل من كثرة ما أرسل للصحف المصرية والعربية مجموعات قصصية لكى تنشر له، ولكن للأسف لم تطبع واحدة منها على ورق جريدة، لكنه توصل إلى حيلة جهنمية، وهى الإمضاء باسم «مى الصغيرة»، فإذا به يفاجأ بأن القصص القصيرة التى أرسلها نشرت جميعاً، ولم يكتفوا بذلك بل تسابق النقاد والمبدعون والمتابعون فى مدح قصص «مى الصغيرة». على مدى ثلاثين عاماً ظل اسم «نادية عابد» توقيعاً لباب أسبوعى فى مجلة «صباح الخير»، كان يحرره الإعلامى اللامع مفيد فوزى، الذى أجاب كثيراً عن سؤال؛ لماذا تكتب تحت اسم نسائى؟ فكانت إجابته؛ حتى أتمكن من الحديث بحرية فى موضوعات تخص النساء. إذا كان المصريون هم الأطول باعاً فى استخدام الأسماء المستعارة فى الكتابة، فإن هذه الظاهرة لم تقف عندهم، فليس من السهل أن يتخلى كاتب عن عمل يلقى نجاحاً تحت اسم وهمى، هذه اللعبة نجح بها الروائى اللبنانى ربيع جابر عندما أصدر روايته «الفراشات الزرقاء» باسم نور خاطر، فعرفت الرواية رواجاً، ولاقت ترحاباً نقدياً، وما كان منه إلا أن يفضح اللعبة حرصاً على روايته ونجاحها. أما فى الأدب العالمى فتعتبر «أجاثا كريستى» التى تعد أشهر من كتبت القصص البوليسية وقصص التحقيق على الإطلاق، مثالاً فريداً فى هذا الشأن، فقليلون من يعرفون أن «أجاثا» عندما أرادت أن ترتاد مناطق إبداعية جديدة، فما كان منها إلا أن تتخذ لنفسها اسماً مستعاراً، وهو «مارى ويستماكوت»، حيث أرادت أن تكتب نوعاً مختلفاً من الأدب وتستهدف شريحة مختلفة من القراء، ونجحت «أجاثا» فى إخفاء هويتها بالاسم المستعار لمدة عشرين سنة كتبت خلالها 6 روايات رومانسية.