رغم كونه السوق الأشهر للبسطاء، إلا أنه أصيب بفيروس غليان الأسعار، والذى ساد فى الفترة الأخيرة، لتتبدل مشاهده اليومية من زحام المارة والمستهلكين، إلى حالة من الركود تشعل غضب واستياء الباعة والذين تكبدوا خسائر فادحة خلال الفترة الماضية. هكذا أصبح حال «وكالة البلح»، والتى لا تبعد سوى أمتار قليلة عن محطة مترو جمال عبدالناصر بوسط القاهرة. جولة ميدانية ل «الوفد» فى الوكالة، رصدت خلالها الارتفاع الشديد الذى لاحق أسعار السلع سواء الجديدة أو القديمة، بعد أن كان مصدراً لسعادة الأسر الفقيرة فى المناسبات المختلفة، لتكون طوق نجاة لأولياء الأمور أمام أبنائهم لشراء ملابسهم بأسعار رمزية. محال مغلقة استسلم أصحابها للخسائر التى لاحقته بآلاف الجنيهات، وقرر استبدال نشاطه بأى مصدر دخل آخر، وغيرهم ممن قرروا مواجهة ضنك الحياة والإبقاء على نشاطهم أملاً فى تعويض خسائرهم، وضعوا السلع أمام محلاتهم ومن جانبهم ظلوا يقفون لساعات طوال وأصواتهم تنادى ترويجاً. «السوق ده كان للغلابة والفقراء، وفيه كل حاجة بأسعار رمزية».. بهذه الكلمات استهل سمير جابر الله، بائع، حديثه، مشيراً إلى أنه خلال الشهور الماضية تبدلت معالم السوق للنقيض، فبدلاً من حركة البيع والشراء والذى كان يميزه عن باقى الأسواق، نظراً لإقبال عشرات المواطنين البسطاء من كافة أنحاء المحروسة، إذ باتت المحال اليوم تعانى حالة الركود الشديد بسبب ارتفاع الأسعار. ويشير صاحب الثلاثين عاماً إلى أن ارتفاع الأسعار ليس فقط على السلع الجديدة والتى زادت بنسبة لا تقل عن ال 30%، بل أصاب الملابس القديمة، والتى كانت طوق نجاة للفقراء هرباً من غليان المنتجات الجديدة.. مضيفاً: «ناس كتير من التجار بيفكروا يغيروا نشاطهم علشان حالة الركود، وده غير رفض المستهلكين شراء الملابس القديمة والتى كانت الأكثر مبيعاً بالسوق وده علشان ارتفاع السعر». وأضاف: «اللى بشلن بقى بجنيه دلوقتى أنا عندى خسائر مش أقل من 7 آلاف جنيه، وأنا برضو راجل على باب الله وتجارتى على قدى مش عارف مين يعوضنى الخسائر دى وأعمل إيه لو قفلت المحل اللى تكاليفه أكتر من ربحه، 1800 جنيه شهرياً بدفعهم إيجار، وكهرباء وميه وخلافه، والربح صفر». «حسبنا الله ونعم الوكيل».. عبارة ينفس خلالها شريف عماد جابر، بائع ملابس، عن غضبه الشديد بعد الخسائر الفادحة التى تعرض لها، خصوصاً حينما شهدت الأسعار ارتفاعاً ملحوظاً.. وقال: «يا بيه البلد خلاص ما بقاش فيها تجارة ولا أكل ولا شرب، وإحنا كتجار مش لاقيين ناكل، وبنصرف أكتر ما بنبيع». وأضاف: «وكالة البلح من قديم الأزل هي الأشهر فى ترويج السلع، سواء قديمة أو جديدة، وليس فقط من الخامات الرديئة بل يوجد بها أجود الخامات المستوردة، وغيرها من محال الخردة، والأدوات الكهربائية، لكن ارتفاع السلع جعل السوق أشبه بالصحراء، ولم يعد فيه غيرنا كتجار موجودين فيه». وواصل شريف شكواه قائلاً: «الملابس القديمة دى كانت حيلة البائعين علشان يبيعوا ويقدروا يصرفوا على نفسهم، بس تجار الجملة مش بيرحموا وغلوا علينا أسعار الملابس القديمة بحجة غليان أسعار الأسواق، وارتفاع سعر الدولار وخلافه، ومنها نحن طبعاً كتجار صغار، فليس أمامنا سوى رفع الأسعار على المواطن علشان نقدر نجيب خسارتنا». الأمر نفسه أكده خليل إبراهيم جابر، بائع، وقال: إن المواطنين البسطاء كانوا مع كل عيد يتوافدون جماعات على المحال ليشتروا الملابس المستعملة لأبنائهم، والذين تسعدهم أقل الأشياء، إلا أن هذه المنتجات باتت محرّمة على الفقراء بعد ارتفاع سعرها بنسبة لا تقل عن 30%. وأضاف: «بيصعب علىّ الغلبان اللى جاى أقصى طموحه يشترى قميص لابنه واتصدم لما شاف الأسعار الجديدة، مش بس جاى يشترى ملابس قديمة، لا كمان مش عارف يشتريها، فبشوف دمعته فى عينه، وبتحسر إنى مش قادر أساعده». وقال: «كلها كام سنة ومصر تعانى من مجاعة حقيقية، ما بقاش فيه طبقة متوسطة دلوقتى، الحال دلوقتى إما غنى أو فقير، وبعد ارتفاع أسعار الملابس الجديدة، والناس الغلابة كانوا بيشتروا الملابس القديمة حتى يفرحوا أولادهم الغلابة، اللي بيشوفوا قدامهم غيرهم من سنهم بيلبسوا أحسن لبس علشان ولاد أغنياء». 10 آلاف هى قيمة خسائر نادر عبدالفتاح، بائع ملابس، بعدما ارتفعت أسعار الملابس بشكل ملحوظ الفترة الماضية، وقال: «يا بيه أنا بصرف كل شهر 2000 جنيه على الكهرباء والميه وخلافه، ولو حسبت مكسب المحل هتلاقيه صفر، طيب أنا أعمل إيه وأنا ورايا التزامات وأسرة». نظرات متسلطة وجهتها فتاة ثلاثينية، بعدما صدمت بأسعار الملابس المستعملة، والتى زادت بنسبة لا تقل عن ال30%، لترسم على وجهها علامات الاستياء الشديد. وبيأس شديد تعيد نظراتها للأرض وعيناها تملؤهما الحسرة، والتقت «الوفد» الفتاة التى رفضت نشر اسمها، وانفجرت غضباً، وقالت: «حسبنا الله ونعم الوكيل حتى اللبس المستعمل مش هعرف أجيبه لولادى». وأضافت: «كل سنة كنت باجى علشان أشترى لولادي هدوم مستعملة من وكالة البلح، علشان يعرفوا يدخلوا المدارس أو يعيدوا وخلافه، وكانوا بيصعبوا عليا علشان مش عارفة أجيبلهم هدوم جديدة زى غيرهم من الأطفال من سنهم عندى فى المنطقة، دلوقتى حتى الهدوم المستعملة مش عارفة أجيبها علشان ارتفاع أسعارها». وتصمت صاحبة الثلاثين عاماً، وتدمع عيناها، وتقول بصوت منخفض: «يصعب عليا عيالى اللى مستنينى أدخل عليهم بالهدوم المستعملة، وكمان مش عارفة أشتريهم، طيب أنا أعمل أيه؟.. أبوهم على باب الله وإحنا على قد حالنا». وتشير الفتاة إلى أن وكالة البلح منذ قديم الأزل منفذ بيع لكافة طوائف الشعب سواء للأغنياء، أو الفقراء، وذلك لتنوع السلع المعروضة بالمحال. «دى أول سنة نشوف فيها المهزلة دى».. بهذه الكلمات احتجت صابرين عبدالعال، ربة منزل، على أسعار الملابس فى المحال، وقالت: «20 سنة باجى فيها هنا الوكالة وبشترى لولادى كل لوازمهم، بس دلوقتى خلاص كل شىء راح، حتى الهدوم القديمة مش عارفين نجيبها حسبنا الله ونعم الوكيل». وبنظرات تشوبها الدهشة، ينظر شاب عشرينى للافتات أسعار الملابس المعلقة، أمام إحدى محال الوكالة، وقال: «لما الحاجة أم 200 تبقى ب400 يبقى إحنا نعيش إزاى، أنا شاب دخلى على قدى، ولو حبيت أشترى طقم واحد هضيع مرتبى كله، أقل طقم كويس دلوقتى مش أقل من 600 جنيه، طيب متوسط دخل الشباب 1200، كده فاضل نصف الراتب، ولو أنا ساكن فى إيجار كده راتبى كله ضاع». وأضاف: «وكالة البلح أنا باجيها من 10 سنين سمعت عنها زمان أول ما جيت القاهرة من جدى، وقالوا إن فيها كل السلع القديمة والجديدة، وكل الخامات، وبأسعار رمزية، بس دلوقتى الحال اتبدل للنقيض، ومش عارفين نعيش إزاى». ويشير صاحب العشرين عاماً إلى أن حال الأسواق يحتاج رقابة مشددة من قبل جهاز حماية المستهلك. «الحكومة نايمة فى العسل».. بهذه الكلمات استهل رؤوف جلال، موظف، حديثه، مشيراً إلى أن غياب الرقابة على الأسواق السبب الرئيسى فى غلاء الأسعار بنسب متفاوتة.. وتابع: «كل بائع بيغلى السعر على كيفه، فإذا الأسعار زادت مثلاً بنسبة 10% هوه بيزود 20 أو 30%، وبيتفق مع الباعة الآخرين على توحيد هذه الأسعار». وأضاف: «أنا عندى 5 عيال، وطبعا أنا موظف وعلى قد حالى، باجى بشترى هدوم مستعملة لعيالى اللى أصلاً رضيوا بالأمر الواقع ومش بيعاندوا زمايلهم اللى بيشتروا ملابس جديدة، لكن السنة دى لما جيت علشان أشوف حال السوق لقيت حالة غليان فعلاً لكل السلع سواء القديمة أو القديمة، ومش عارف بجد أعمل إيه دلوقتى!.. مش هعرف أشترى اللبس الشتوى لعيالى الخمسة، فأكيد هضحى بعيل أو عيلين منهم علشان الباقى يلبس!».