رغم مزاعم الرئيس الأمريكي باراك أوباما حول أن واشنطن ستفتح صفحة جديدة مع العراق تقوم على الشراكة القوية بعد انسحاب آخر جندى أمريكى من بلاد الرافدين، إلا أن الاتفاقية الأمنية الموقعة بين الجانبين في 2008 ضمنت مبكرا تبعية هذا البلد العربي للولايات المتحدة لعقود. وكان أوباما أعلن بعد محادثات أجراها في واشنطن في 13 ديسمبر مع رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي أن الولاياتالمتحدة ستبقى "شريكا قويا ودائما" لبغداد بعد الانسحاب الأمريكي آخر جندي أميركى من العراق، مؤكدا أن البلدين سيفتحان صفحة جديدة في علاقتهما، وحذر إيران ضمنيا من أي تدخل في شئون العراق، قائلا إن "العراق وعد بعدم التدخل في شئون دول أخرى، وعلى هذه الدول ألا تتدخل في الشئون العراقية". وجاء لقاء أوباما والمالكي قبل حوالي ثلاثة أسابيع من انسحاب القوات الأمريكية بعد مضي حوالي تسع سنوات على اجتياح العراق، الذي تم دون موافقة الأممالمتحدة للإطاحة بنظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، الذي أعدم نهاية عام 2006. وقال مقربون من المالكي إن الزيارة جاءت بهدف تفعيل الاتفاقية الأمنية والإستراتيجية التي أبرمها العراق مع الولاياتالمتحدة في نهاية عام 2008، والتي توفر إطارا عاما لعلاقات إستراتيجية مستقبلية واسعة بين الجانبين من ضمنها التعاون العسكري. ورغم أنه من المقرر أن يسلم الجيش الأمريكي المسئولية الأمنية بحلول 31 ديسمبر لقوات الأمن العراقية البالغ عددها حوالي 900 ألف عنصر، إلا أن الولاياتالمتحدة ستبقي مع ذلك 157 عسكريا و763 متعاقدا مدنيا على أرض العراق بزعم تدريب القوات العراقية . هذا بالإضافة إلى أن أمريكا خططت وهي بصدد إنهاء احتلالها العسكري للعراق وفقا للاتفاقية الأمنية لترك هذا البلد العربي المنكوب فريسة لتحديات لا حصر لها ، ليبقى دائما في حاجة إليها ، لدرجة أن قادة عراقيين من ضمنهم رئيس الجمهورية جلال الطالباني عبروا عن القلق من عدم اكتمال جاهزية القوات العسكرية العراقية، وخاصة في مجال الدفاع عن الحدود والمجال الجوي والمياه الإقليمية، حيث أنه منذ قرار الحاكم العسكري الأمريكي للعراق بول بريمر حل الجيش وأجهزة الشرطة, لم تقم الولاياتالمتحدة بإعادة بناء هذا الجيش وفقا للعقيدة الاحترافية التي تمكنه من الدفاع عن البلاد. هذا بالإضافة للتحديات الداخلية الهائلة ، حيث أنه انسحاب السبعة الآلاف جندي أمريكي من العراق نهاية ديسمبر, وهم آخر القوات المتبقية, وفقا للاتفاقية الأمنية الموقعة بين البلدين عام 2008, فإن الوضع الأمني يشكل تهديدا خطيرا لمستقبل العراق ، حيث أن القوات الأمنية العراقية لا تعكس مؤسسات وطنية تعمل من أجل صالح البلد ككل, بل يغلب علي تكوينها البعد الطائفي, مما يجعلها جزءا من مسببات العنف وليس مواجهته, كذلك ضعف إمكاناتها المادية لمنع اندلاع أية مواجهات طائفية تعقب الانسحاب الأمريكي. وبالنسبة للنواحي الاقتصادية ، فإنه رغم غنى العراق بالنفط والغاز, إلا أن البنية الأساسية العراقية دمرت وارتفع عدد العراقيين تحت خطر الفقر إلي أكثر من40%, وارتفعت البطالة إلي أرقام قياسية ولا توجد مؤسسات اقتصادية قوية, إضافة إلي انتشار الفساد والمحسوبية في صفقات النفط والغذاء, وإلي جانب كل ذلك هناك مشكلة العراقيين المهجرين في الخارج والذين يتجاوز عددهم أكثر من خمسة ملايين شخص, إضافة إلي المهجرين في الداخل نتيجة للتصفية الطائفية التي حدثت بين عامي 2006 و2008 . بل وذكرت صحيفة "الأهرام" المصرية أن التحدي السياسي يمثل أيضا قنبلة موقوتة يمكن أن تفجر العراق كله إذا استمرت العملية السياسية كما هي مختلة ترتكز علي المحاصصة الطائفية, فالدستور العراقي كرس الطائفية ونظام الفيدراليات الذي يهدد بتقسيم البلاد خاصة مع اختلال العلاقة بين الحكومة المركزية والأقاليم ونزوع الأخيرة إلي الاستقلالية في جميع الأمور الإدارية والاقتصادية والسياسية, يساعدها في ذلك قانون الأقاليم الذي تم إقراره ويعطي للإقليم اليد العليا في مواجهة المركز. كما يتجه الأكراد إلي النزوع إلي الاستقلال عن البلاد بعد استكمال كل مقومات الدولة ولم يتبق فقط سوي التوقيت لإعلان الانفصال بعد أن تكون الظروف الإقليمية مواتية لذلك, كذلك يعطي الانسحاب فرصة كبيرة لتزايد الدور الإيراني في العراق, وهو دور أخطر من الدور الأمريكي, لأنه ينشط في الباطن أكثر منه في الظاهر, كما يساعده العلاقة القوية السياسية والدينية بين بعض النخب العراقية الحاكمة والنظام الإيراني السياسي والديني في قم ومشهد, وهذا الدور يسعي لتدعيم المصالح الإيرانية علي حساب المصلحة العراقية, بل تسعي طهران لتوظيف الورقة العراقية في تدعيم نفوذها الإقليمي وفي مساوماتها مع الولاياتالمتحدة بشأن برنامجها النووي. وفي السياق ذاته ، ذكرت صحيفة "الرياض" السعودية في تقرير لها في 13 ديسمبر تحت عنوان "عراق ما بعد أمريكا" أن المزاعم حول أن أمريكا قدمت نظاما ديمقراطيا للعراق هي "قول مزيف"، حيث قامت بتسريح قوات الجيش وزرعت الفوضى ومكنت تنظيم القاعدة من الهيمنة على مواقع لم تكن متاحة لها، وضاعفت أزلام الفساد، وفتحت الأبواب لكل الممارسات غير الأخلاقية. وتابعت " النتائج الفعلية للغزو ليست المظاهر الخادعة بحصول المواطن على هاتف جوال، واستقبال محطات الفضاء، واستخدام الإنترنت ولبس السراويل والقمصان الأمريكية، وترديد الأغاني الأجنبية،وإنما هي بؤس أربعة ملايين لاجيء في الخارج، ومثلهم تحت خط الفقر، وانعدام الأمن، وحرب طائفية معلنة ". وأبرزت الصحيفة أن قضايا العراق معقدة داخليا، فحالة الانقسام بين الفصائل الشيعية والسنية، والتكوينات الصغيرة للأقليات التي تتعرض للاعتداء والإبادة، لا توحي بوحدة وطنية يضمنها دستور يساوي بين المواطنين. وأشارت إلى أن القوات الأمريكية ستنهى انسحابها بعد أسابيع، ويبقى مجموعة نسبية من تلك القوات لتقديم التدريب والاستشارات، ومع ذلك فذكريات الغزو عند كل عراقي لا تبرر كيف خسر كل شيء مقابل إنهاء حكم صدام، والذي كان بإمكان أمريكا التخلص منه باغتياله أو القيام بانقلاب عسكري ضده يؤدي إلى خصم أرقام الضحايا، والمليارات التي راحت عبثا باسم "الوعد الإلهي" لبوش. وأوضحت الصحيفة أن المالكي زار أمريكا ، ولكن إيران حاضرة في أي حوار أو عقد صفقة، أو اتفاق على أمور مادية أو أمنية، أو سياسية لأن المواطن العراقي الذي يتمتع ولو بوعى بسيط، يدرك أن رئيس الوزراء مقيد بأصفاد إيران . وتابعت " الشخصيات الحكومية والمهمة تعيش داخل أسوار المنطقة الخضراء، وبعزلة تامة عن الشعب وهموم الوطن ، واختتمت قائلة :" سوريا تشكل أيضا المأزق الجديد عندما تجاور دولة يسودها الاضطراب والثورة مع بلد لم يستقر بعد، وهي جميعا تحديات لا ندري إن كان عراق مابعد أمريكا يقوى على مواجهتها أم يفشل". والخلاصة أن الانسحاب الأمريكي العلني من بلاد الرافدين وإن كان جاء تحت وطأة الضربات الموجعة للمقاومة العراقية ، إلا أن زوال الاحتلال فعليا يبقى خدعة كبرى، حيث ضمنت واشنطن السيطرة على هذا البلد العربي الجريح لعقود .