من مأزق إلى أزمة إلى كارثة.. هكذا تسير الحياة فى مصر، والمواطن دائماً هو الضحية. فأينما يولى المصرى وجهه يجد فى انتظاره كرباجًا يلهب ظهره. من أسواق الخضراوات، وحتى أنابيب البوتاجاز، مروراً بفواتير الكهرباء والمياه، ومصروفات المدارس، وأسعار المواصلات. ولم تتوقف الكارثة عند هذا الحد، بل ظهر فى مصر طبقة من أثرياء الأزمات الذين احترفوا المتاجرة فى الأزمات لتحقيق أقصى ثروة ممكنة، ولو كان المقابل هو تقطيع لحم المصريين. فى سوق الخضار رصدنا تلاعباً يمارسه البعض، فيبيعون سلعة سعرها العادل 150 قرشاً ب6 جنيهات، ويبيعون سلعة أخرى ثمنها الحقيقى 250 قرشاً ب7 جنيهات، وهكذا حال كل السلع. نفس الحال يتكرر حالياً مع أنابيب البوتاجاز، التى أشعل البعض أسعارها لتصل إلى ما بين 60 و80 جنيهاً رغم أن سعرها 10 جنيهات فقط. وهكذا تحدت أسعار السلع والخدمات توجيهات رئيس الجمهورية وتعليماته، ومازال الوزراء والمسئولون عاجزين عن مواجهة انفلات أسعار السلع والخدمات. وصلت أسعار الخضراوات والفاكهة بالأسواق إلى أرقام غير مسبوقة، إذ سجلت الطماطم 7 جنيهات للكيلو، والفلفل 6 جنيهات. وانتقلت عدوى «جنون الطماطم» إلى الفاصوليا ليصل سعرها إلى 20 جنيهًا والبامية 15 جنيهاً. واتجهت أصابع الاتهام إلى تجار سوق العبور، وأنهم وراء ارتفاع الأسعار وفرض تسعيرة جزافية. «الوفد» توجهت إلى سوق العبور لرصد عمليات البيع والشراء.. وهناك وجه التجار الاتهامات إلى «الشلايش» وهى الأسواق الصغيرة وتجارها، مؤكدين أنهم العنصر الرئيسى فى رفع الأسعار إلى جانب جشع تجار التجزئة الذين يرغبون فى جنى المزيد من الأرباح. ومع ارتفاع أسعار الخضراوات والفاكهة تأتى كلمة سوق العبور. يأخذك خيالك إلى فيلم «الفتوة» للراحلين فريد شوقى وزكى رستم. ويعبر بك خيالك إلى وجود تاجر واحد يتحكم فى السوق ويحدد الأسعار ويأمر وينهى وتنفذ أوامره. تلك الصورة فى الحقيقة على العكس تماماً، فحركة البيع والشراء متوقفة، ولا يشغل بال التجار المنافسة فيما بينهم.. بل تعلقت أفكارهم بالوسيلة لدفع فواتير المياه والكهرباء والضرائب التى فرضتها عليهم الحكومة. وتتراص أقفاص الخضر والفاكهة فى مكانها بالسوق، وإلى جوارها اصطف كبار التجار فى صمت وحسرة.. تلك الحالة التى ظهرت على وجوههم، طرحت علامات استفهام مضمونها: هل حقًا هؤلاء وراء تلك الأسعار الجنونية التى تضرب الأسواق؟ وكيف لهم احتكار سلع تتلف بعد ساعات؟ على طريق القاهرة - الإسماعيلية الصحراوى، تجد سيارات النقل محملة بالخضراوات والفاكهة، تتجه نحو سوق العبور لبيع الحصاد، تدخل من البوابات محملة بما لذ وطاب وتخرج خاوية. «الوفد» ترصد عملية البيع والشراء داخل السوق لتكشف عن معاناة التجار والسبب الحقيقى وراء أزمة ارتفاع الأسعار. فى أكتوبر 1994 انتقل تجار سوق روض الفرج إلى سوق العبور، الذى كلف الدولة حينها 229 مليون جنيه لإقامة 1200 محل لبيع الخضراوات والفاكهة والأسماك، لتقليل نسبة الفاقد من الخضر والفاكهة التى كانت تصل إلى 50 - 60٪ بما يعادل مليار جنيه سنوياً.. وتحول السوق حينها إلى بورصة لبيع الخضار والفاكهة. واليوم ومع اشتعال الأسعار تحولت أرباح التجار إلى خسائر يومية. توجهنا إلى عنبر (7) خضار، وكانت حالة الركود هى المسيطرة على المكان. أقفاص الطماطم التى اشتعلت أسعارها بالأسواق متراصة إلى جوار تجارها ينتظرون الفرج، ولسان حالهم يسأل: «أين ذهب تجار التجزئة؟ ». حاتم النجيب تاجر فى عنبر الخضار، أشار فى البداية إلى أن تجار السوق ليس لهم أى تدخل فى فرض أسعار السلع أو احتكارها كونها تتلف بعد ساعات.. وقال إن التجار بالسوق يسعون إلى استعادة الحركة مرة أخرى إلى السوق عوضًا عن تلك الحالة التى أدت إلى إغلاق العديد من التجار لمحلاتهم بسبب كثرة الديون. وأضاف أن الحديث عن أن تجار السوق وراء جنون الأسعار فهذا افتراء. فسعر قفص الطماطم اليوم يتراوح بين 30 وحتى 50 جنيهًا لأعلى جودة.. والبامية سعرها 10 جنيهات.. أما الفاصوليا الخضراء فارتفع سعرها نظرًا لتصديرها إلى السوق الأوروبى وهى سلعة مكملة وليست أساسية. وأكد النجيب أنهم اجتمعوا مع المسئولين بوزارة الزراعة والتموين لدعم المجمعات الاستهلاكية أو أى سلاسل تتبع القطاع العام بأسعار مخفضة تضاهى أسعار الجملة، ومنها مبادرة أعلن عنها قبل شهر رمضان.. لكن لم نتلق أى رد فعل من المسئولين. وبدلًا من توجيه اللوم لتجار السوق، فالأولى أن تتجه أصابع الاتهام نحو المسئولين الذين تركوا السوق لأصحاب «الشلايش» يتحكمون بها. وأشار إلى أن التجار لا يستطيعون احتكار أى سلعة لأنها تتلف.. والمتحكم بالأسواق هى الأسواق الصغيرة ويطلق عليها «شلايش» ويذهب إليها أغلب تجار التجزئة رغم ارتفاع أسعار الخضراوات والفاكهة بها عن سوق العبور. أما المعلم إبراهيم حداد المتحدث الإعلامى لتجار سوق العبور، فأشار إلى أن ارتفاع الأسعار يتفاوت من منطقة إلى أخرى، فالمناطق الراقية تختلف عن الشعبية. ويحكى أنه أثناء ذهابه إلى منطقة النهضة بأن سعر الخيار هناك وصل إلى 6 جنيهات للكيلو، وهو ما جعله يسأل البائع عن السر فى مغالاته فى بيع الخيار إذ إن سعره فى اليوم نفسه بسوق العبور، كان 150 قرشًا للكيلو. وأخبره البائع أن ارتفاع الإيجار وفواتير الكهرباء والمياه هو السبب الرئيسى لرفع الأسعار. وأكد الحداد أن تجار «الشلايش» استولوا على كل شىء عكس تجار العبور الذين يتهمهم الإعلام بإشعال أسعار الخضراوات والفاكهة. فتاجر سوق العبور ملزم بدفع ضرائب وفواتير مياه وكهرباء إلى جانب رسوم الخروج والدخول التى تفرض على العربات التى تدخل خزينة الدولة وقيمتها 3 ملايين جنيه سنوياً. أما «الشلايش» كسوق سرياقوس وبلقس والساحل بمصر القديمة وسوق شبرا الخيمة، فلا تدفع ضرائب أو كهرباء ولا تفرض عليها الدولة رسوماً.. بل تركت هؤلاء يتحكمون فى الأسعار. وأوضح «الحداد» أنهم اجتمعوا مع وزير التموين الأسبق، وعرضوا عليه إقامة أكشاك أو محلات تتبع القطاع العام أو المحافظة ويشرف عليها التجار وتساهم فى حل مشكلة البطالة عن طريق تشغيل الشباب فى تلك الأكشاك والحد من موجة الغلاء التى يشعر بها المواطن. «الإماطة» هم السبب لكل مهنة لغة خاصة بأهلها و«الإماطة» فى لغة السوق هم تجار الجملة الصغار الذين يبيعون بالجملة والقطاعى للزبائن، للخروج من الحالة المتعثرة التى يعيشونها.. فبعضهم قام ببيع الطماطم بسعر الجملة للتخلص منها قبل أن تتلف. وأشار المعلم فايق شنودة، تاجر خضراوات، إلى أن أسعار الخضراوات بالأسواق الصغيرة مرتفعة بصورة مبالغ فيها، عكس سوق العبور، فالطماطم حاليًا فى سوق العبور تباع بسعر 2. 5 جنيه للكيلو، فى حين تباع بالأسواق بسعر من 6 إلى 7 جنيهات، والسبب وراء ذلك هم تجار «الشلايش»، فهم حيتان السوق الذين يجب التفتيش عنهم ويحصدون أرباحًا خيالية ويتحكمون فى الأسعار لأن أغلب تجار التجزئة يتجهون إلى تلك «الشلايش» لقربهم من الأسواق الصغيرة. وأوضح شنودة أن عمليات البيع تتم بطريقتين.. الأولى أن التجار يعطون الفلاحين قروضًا للزراعة وهنا يتحمل التاجر خسائر المحصول، أو أن يعرض الفلاح الحصاد على الفلاحين بالسعر الذى يحدده ويتقاضى التاجر نظير عملية البيع فائدة تتراوح ما بين 3 إلى 5٪. «شغلانة» مرار.. بهذه الكلمات تحدث الحاج حامد عامر، خريج كلية تجارة جامعة عين شمس، والذى ورث المهنة عن أبيه، وارتدى الجلباب فى الوقت الذى تقلد فيه أصحابه المناصب، على حد تعبيره. وأضاف أن الدولة لا تنظر إلى مطالبهم وإنما تنظر فقط إلى تحصيل الرسوم والضرائب، مؤكدًا أن ما يحدث الآن هو عملية استغلال، فالمزارع يتصل بالأسواق فى المحافظات ويسأل عن الأسعار ويختار الأعلى سعرًا ليبيع له بضاعته.