هل يمكن أن يكون للديمقراطية ضحايا؟! الجواب نعم.. عندما تكون نسبة الأمية عالية.. وعندما يكون الوعي السياسي منخفضًا.. ولسنا وحدنا في الأولي علي الأقل. فقد كانت - ومازالت - الديمقراطية من أهم معاركنا.. فلا جدال أن هذه الديمقراطية في مقدمة معاركنا.. مهما عانينا من متاعب ومشاكل.. بل وما واجهناه من جهل بعض أعدائنا. ** ها هو أحد رجال السلفيين.. يتصدر إحدي قوائم السلفيين في دائرة من أكبر دوائر إقليمالقاهرة الكبري يقولها صراحة: إن ترك الحكم للشعب، أو ما يعرف بالديمقراطية، إنما هو كفر بالله.. مشيرًا إلي ضرورة الاعتماد علي نظام البيعة لاختيار خلفاء المسلمين.. هكذا نطق.. وهكذا قال ليكشف عن أنه وجماعته يدعوان إلي العودة مئات السنين، بل آلاف السنين.. ولكنه وهو يكشف عما في نفسه ونفوس من يمثلهم نسي أن معاوية بن ابي سفيان، بعد أن استقر له الأمر في دمشق وأراد أن يحصل لولده يزيد علي البيعة من كبار المسلمين اتخذ طريق الديمقراطية.. فقد ذهب إلي من بقي من صحابة رسول الله في المدينةالمنورة وأخذ يناقشهم ويحاورهم.. محاولا اقناعهم بمبايعة ولده يزيد، أليست هذه هي الديمقراطية.. حتي وان رد عليهم أحدهم قائلاً هل تريدها رومية، أي وراثية كما يفعل أباطرة الروم. ** ثم لماذا يقرن هذا المرشح السلفي - الآن - حكم الشعب بأنه كفر بالله.. لماذا دائمًا يربطون بين الدين والديمقراطية.. وهل هم فعلاً يطبقون شرع الله فيما يقولون أو يفعلون.. ولماذا يكفرون كل من لا يأخذ برأيهم.. ومن هم حتي يحكموا علي إنسان بالكفر مرة.. وربما بالإيمان أخري.. وهل هم وحدهم المسلمون الذين يطبقون شرع الله؟ ولكنهم هنا يستغلون الدين ليحققوا.. وهم بذلك يحاولون استغلال ضعف الكثيرين بحقيقة الدين والدنيا.. ويستغلون كل ما يشاع من الديمقراطية وعن السلوك الديمقراطي. ** وهنا أستعيد ما حدث في مصر منذ ما يقرب من قرن من الزمان ففي أول انتخابات برلمانية تجري في مصر يناير عام 1924 تحت مبادئ دستور 1923.. رشح أحد أبرز أعلام مصر نفسه في هذه الانتخابات. هو أحمد لطفي السيد رئيس أول جامعة مصرية وكان أحد أقطاب حزب الأحرار الدستوريين.. ورئيس تحرير واحدة من أكبر الصحف المصرية وقتها وهي صحيفة «الجريدة». فقد أشاع معارضه في الانتخابات أن لطفي السيد ديمقراطي ويؤمن بالديمقراطية.. وأضافوا من عندهم أن الديمقراطية تسمح للمرأة أن تتزوج أكثر من واحد.. في وقت واحد.. وتشجع بعض أبناء دائرته وذهبوا إليه في بيته في «برقين» وسألوه: هل أنت ديمقراطي وتؤمن بالديمقراطية.. هنا قالها لطفي السيد وبالفم بالمليان: نعم أنا ديمقراطي وأفتخر!! وسقط لطفي السيد بالتلاتة.. وضاع منه مقعد أول برلمان حقيقي في مصر. ** وهكذا راح لطفي السيد ضحية إيمانه بالديمقراطية.. وهو الرجل الذي ترجم أعظم مؤلفات أرسطو في الديمقراطية والأخلاق وكان رئيس الجامعة المصرية ومدير دار الكتب.. ورئيس مجمع اللغة العربية.. ووزير الداخلية أيضًا!! وبذلك أصبح الرجل أول شهيد للديمقراطية في تاريخ مصر. ** للأسف فإن حزب الوفد - وهو أول وأكبر وأقدم - حزب ديمقراطي في مصر يكاد يصبح ضحية لهذه الديمقراطية إذ إن معظم معاركه الكبري كانت من أجل هذه الديمقراطية من أجل أن يحكم الشعب نفسه بنفسه من خلال برلمان حقيقي منتخب. ومن أجل هذه الأهداف العظمي خاض حزب الوفد معارك شرسة مع القصر الملكي القديم.. ومع القصر الجمهوري الجديد وفقد الكثير من قوته في هذه المعارك. حقيقة كان الشعب يحمل الوفد إلي مقاعد الحكم إذا أجريت الانتخابات بحرية وشفافية.. ولكن الوفد كان يفقد مقاعد الحكم هذه بمؤامرات إما من القصر الملكي.. واما من أحزاب الأقلية التي حكمت مصر أكثر مما حكمها الوفد.. حزب الأغلبية. ** ولقد استنفد الوقت معظم جهده وعصارة عقله وهو يدافع عن هذه الديمقراطية طوال القرن الماضي، من أول حكومة له في يناير 1924 وحتي آخر حكومة له 4 يناير 1950.. وبسبب شعبيته هذه لم يمكنه القصر الجمهوري - هذه المرة - من العودة إلي مقاعد الحكم منذ أن عاد الوفد إلي الحياة السياسية في آخر سنوات حكم السادات. ثم فقد الوفد الكثير من الجهد - وبذل الكثير من العرق - في كل المعارك التي خاضها وهو يتصدي للحكم الدكتاتوري.. وتعرض للبطش فاضطر مرة إلي تجميد نشاطه عام 1978 حتي لا يقبل تجاوزات حكم الرجل الواحد.. وتلقي الضربات مرات عديدة طوال حكم مبارك. ** كل هذه الضربات تلقاها الوفد.. ولكن بعد أن هيأ الحزب الساحة السياسية لعصر جديد.. وعندما خرجت كل هذه الأحزاب والتيارات للنور.. كان الوفد يخرج مثخنًا بالجراح.. ممزقًا وفقد الكثير من قواعده ومن شعبيته. ** فقد نجح نظام مبارك في تكسير ضلوع الوفد والوفديين.. لتجيء التيارات الجديدة.. وتركب الموجة وتقفز إلي مقدمة المشهد السياسي. وتلك هذه ضريبة الديمقراطية التي يدفعها الآن الحزب الديمقراطي الأول في مصر.. حزب الوفد