متعهدو الصحف هم عصب المهنة، معظمهم لم يلحق بقطار التعليم أو غادره وسط الطريق، ورغم ذلك تجدهم واسعي الأفق يتحدثون فى التاريخ والسياسة والأدب، يتحدثون كالفلاسفة، أفنوا عمرهم فى سبيل الوعى المجتمعى.. ينظرون بعيون ثاقبة نحو كل شخص يقبل على شراء صحيفة بعينها ليرصدوا آراءهم السياسية قبل أن يحدثوهم. بعد سنوات لم تمنعهم المواقع الالكترونية ومواقع التواصل الاجتماعى عن مواصلة مشوار المهنة وظلت «مانشيتات» الصحف هى متعتهم الوحيدة ينقلونها من الوزير إلى الخفير، بعضهم عاش تاريخ الصحافة وعايش عظماءها على مدار 70 عاماً. تحدثوا ل«الوفد» عن طبيعة مهنتهم وحجم متاعبهم ودور التكنولوجيا فى العصف بمهنة محاربى الظلام. ميدان التحرير على الرصيف فى ميدان التحرير جلس كعادته من الخامسة صباحاً ينتظر سيارة التوزيع طوال 70 عاماً.. لم تتغير مواعيد استيقاظ «عم رمضان» أقدم بائعى الصحف فى ميدان التحرير. بدأ مشواره مع الصحف فى الثانية عشرة من عمره وقال: ورثت المهنة عن والدى الذى كان متعهداً للصحف من باب اللوق بوسط البلد حتى حلوان وبعد سنوات أستطيع أن أقول إن مهنتى أصبحت تعانى المرار وأولادى سيرثون المرار من بعدى، فحين بدأت ممارسة المهنة كانت الصحافة مقتصرة على ثلاث صحف قومية وصحيفة معارضة. والصحف القومية كانت «الأهرام لمحبى المقالات والتحليلات المتعمقة و«الأخبار» كانت جريدة رشيقة شبابية تعتمد على المعلومة والخبر، و«الجمهورية» كانت لمحبى الرياضة وأخبار الحوادث على الأرجح، و«الوفد» كانت تمثل المعارضة، وكانت «الوفد» أكثر الجرائد نجاحاً. ويضيف «عم رمضان»: هذا الوضع تغير الآن فهناك ما يقرب من 130 صحيفة يومية ما بين حكومية ومستقلة ومعارضة بالإضافة إلى الصحف الأسبوعية، وقال القارئ أصبح قادراً على الاختيار بحرية أكبر. «عم رمضان» يبكى حاله بعد أن انخفضت نسبة قراء الصحف الورقية بسبب زحف التكنولوجيا وانتشار الأخبار على جميع صفحات الانترنت، فبعد أن كانت نسبة البيع اليومية تصل إلى 2000 نسخة وأكثر تراجعت الآن إلى 200 نسخة، وأضاف: لولا اعتمادنا على بيع الكتب والمجلات مش هنلاقى نأكل عيش حاف. طباخ السم لا يذوقه دوامة التكنولوجيا أمسكت به وجعلته يدور فى فلكها، هذه العبارة تلخص حالة صفوت سلطان الذى يقرأ الأخبار عبر هاتفه المحمول، حياته تنتعش على حد وصفه فى أوقات الأزمات فقط، إذ ترتفع نسبة مبيعات الصحف أثناء المظاهرات أو الكوارث فقط وقال: الناس بتقرأ علشان المصايب بس.. وقت الثورة كانت الصحف تنفد تماماً فى الساعة السابعة صباحاً مثل أيام الزمن الجميل للصحافة. ويطالب صفوت بإنشاء نقابة لبائعى الجرائد تدافع عن حقوقهم وتكفل لمن يمرض قوت يومه والعلاج، مشيراً إلى أنه وبعض متعهدى الصحف عقدوا اجتماعات مع شركات التوزيع التى قدمت وعوداً لم يتحقق شىء منها، وأضاف: مكسبنا فى الجورنال الواحد 18 قرشاً يعنى بالكثير مكسبنا فى اليوم 20 جنيهاً فقط وأطالب المسئولين بمراعاة ظروفنا، فالبلدية من ناحية والحى من جهة أخرى يتحالفان علينا. نهاية الخدمة عم سيد حكاية ثالثة، إذ أنهى خدمته بمؤسسة الأهرام وبدأ فى استكمال مسيرة بيع الصحف والكتب بوسط البلد، لديه 4 أولاد لم يمتهن أحدهم مهنة أبيه يعرفه رؤساء التحرير.. فكانوا فى الماضى صحفيين تحت التمرين، يستيقظ فى الخامسة صباحاً كعادته يقول: تعودنا نستيقظ بدرى زى أيام زمان ولو سألتنى عن أيام زمان هجاوبك أن الجرائم كانت تنفد من السابعة صباحاً ودلوقتى الجرائد نصها مرتجع «محدش بيقرا». ويرى «عم» سيد أن لبائع الصحف صفات خاصة، أهمها الالتزام بالمواعيد، فالقراء يتوقعون أن يجدوا صحيفتهم فى وقت محدد.. وهناك أشخاص لا يستطيعون أن يبدأوا يومهم إلا بقراءة الصحيفة. وتتم عملية توزيع الصحف يومياً على مرحلتين: الأولى من التاسعة مساء للطبعتين الأولى والثانية من الفجر وبعد الاستلام فى المرحلتين يجرى توزيع الصحف على الباعة.. ومن المشكلات التى تواجه المهنة انخفاض هامش الربح، فالمكسب فى كل نسخة 9 قروش مما يعنى أن البائع إذا باع 300 نسخة مثلاً وهذا رقم كبير نسبياً سيكسب 27 جنيهاً وهذا مبلغ لا يغنى ولا يسمن من جوع فى الظروف الراهنة. وعن ذكريات «عم سيد» يقول: كنت أعطى بائع تذاكر القطار الجرنال وكان فى بعض الأحيان يعتقد أننى صحفى وأحصل على نصف تذكرة، أو بائع الفول عندما يهتم بى فى البيع مقابل الجرنال.. كل تلك العادات اختفت لأن الجرنال قل الطلب عليه. ميراث جميل فى رمسيس وأمام مصلحة الشهر العقارى وقف أحمد المغربى فى حرارة الشمس ليستلم ورديته فى البيع. يدعو أحمد لزميله بعد أن أنهى الوردية ويتمنى له الرزق الوفير. أحمد المغربى بدأ حياته فى بيع المناديل وكان يقف مع صاحب الجرائد الأصلى «عم عبده» وبعد وفاته قال: ورثت مهنته فالصحافة إدمان جميل، لدىّ أربع بنات، حين توليت توزيع الجرائد كان إجمالى النسخ التى أوزعها حوالى 4000 نسخة حالياً انخفض التوزيع، هناك جيل يعتمد على الإنترنت أكثر، بالإضافة إلى القنوات الفضائية التى ازداد عددها وأصبحت أكثر اهتماماً بالأخبار والتحليلات واستضافة المفكرين والمحللين. وأوضح «المغربى» أن عملية التوزيع لها ثلاث مراحل تبدأ بالشركات الثلاث التى تطبع أو توزع ثم المتعهد الذى يتعاقد معها، وهو فى هذه الحلقة وصولاً إلى البائع. أما حسن عبدالنعيم فقد ترك «استاند» خارج الكشك وعرض مجموعة صغيرة من الجرائد وحوّل مهنته إلى بائع للمشروبات الغازية والمعلبات وقال: 20 نسخة فى اليوم حصيلة البيع والباقى مرتجع، الناس بتحب الصحف المعارضة أكثر من القومية، خاصة «الوفد». أثناء الحديث مع «حسن» جاءه أحد الموظفين يسأل عن «الوفد» ليس للشراء وإنما ليتصفح ورقاته، وحينما سألناه عن «الوفد» أجاب: مفيش فلوس لو قرأت الجرنال كل يوم يعنى سأنفق 60 جنيها شهريا لذلك أقرأ «الوفد» أمام الكشك وأعيده كما كان.