الناقد والمترجم حسام نايل، أحد النقاد والباحثين الذين يتطرقون إلى العمل الأدبى من أبواب ومداخل مختلفة، أصدر من قبل عشر دراسات ما بين التأليف والترجمة، كان أغلبها تدور حول إستراتيجية التفكيك، وسيصدر له قريباً كتاب "تفكيك وحروب رمزية: العائلة والقانون والدولة في أدب محفوظ". وبمناسبة مرور الذكرى المائة لميلاد محفوظ كان ل"بوابة الوفد" هذا الحوار معه . * الدراسات الأكاديمية عن نجيب محفوظ كثيرة خاصة بعد حصوله على نوبل، إلا أن القراءات التفكيكية لها منعدمة.. فما أسباب ذلك فى رأيك؟ الأسباب متنوعة وعديدة، ويمكن حصرها على النحو الآتى: أولاً، القراءة التفكيكية للأدب تُفهم بشكل مغلوط عندما يظن الناقد أن التفكيك نهج منفصل عن العمل الأدبى، وحقيقة الأمر أن التفكيك نهج العمل الأدبى ذاته، بمعنى أن الناقد التفكيكى يقوم بعملية تتبع مرهف ودقيق لمواطن التفكيك فى العمل الأدبى ولا يأتى بشىء من عنده، وإنما يرهف السمع لصوت العمل. ثانيًا، العرف النقدى العام فى مصر يسعى دومًا إلى اكتشاف المعنى الواضح فى العمل، وهذا المعنى يعطيه أى عمل أدبى، حتى لو بدا غامضًا، حيث يأخذ الناقد الأدبى على عاتقه إيضاح الغموض وإزالة الإبهام ، وأثناء هذه المهمة يغيب عن الناقد أن العمل الأدبى يتولى بنفسه- دومًا تقريبًا- عمليات تفكيكية تُبْهِمُ الأمرَ الواضحَ وتزيد من إبهام المبهم، ثالثًا، تَلَقَّى معظمُ النقاد أعمالَ محفوظ فى إطار برنامج تنويرى يستعير حرفيًا عصر الأنوار الأوربى، فى هذا الإطار حدث التعامل مع أعمال محفوظ بوصفها الأعمال التى تكشف عن علل التعثر فى الواقع السياسى والاجتماعى والدينى، ولم يخطر على البال إمكان أن تتولى أعمال محفوظ مناقشة برنامج التنوير على الطريقة الأوربية وتفنيده. وهذه الأسباب الثلاثة يتصل بعضها ببعض ، رابعها وأخطرها أننا لم نتدرب على طرق التفكير العكسى. * الدولة فى كتابات ما بعد الحداثة هى "مصنع الخوف" كما يقول زيجمونت باومان، فكيف صورها أدب نجيب محفوظ؟ قد يكون من الصادم بالنسبة إلى كثيرين أن أقول إن نجيب محفوظ يضطلع فى بعض أعماله الروائية بعملية تفكيك هائلة لفكرة الدولة بتجلياتها المؤسسية، وفى هذا السياق من المفيد أن ننظر إلى رواية "حضرة المحترم" نظرة عكسية، حيث نجد كلما تقدم السرد الأدبى قرانًا غريبًا بين فكرة الدولة بمعناها الحديث والعدمية أفادتنا به بشكل بلاغى مكثف خاتمة الرواية، وكذلك رواية "اللص والكلاب"، فالقراءة التفكيكية التى تعطيها هذه الرواية تقف بنا على مسيرة قصاص عادل يتولاها سعيد مهران، وأثناء هذه المسيرة يستشكل سعيد مهران فكرة الدولة فى أعلى تجلياتها المؤسسية وأعنفها سواء حقيقةً أم رمزًا: مؤسستىْ الإعلام والقضاء وأخيرًا مؤسسة الأمن، وقد تناولتُ فكرةَ الدولة عند محفوظ فى مقالين طويلين منشورين الآن. * وما المشكلة ؟ المشكلة تكمن فى أننا لم نتدرب على طرق القراءة العكسية، فإذا رأيت كل الناس يمضون فى هذا الاتجاه فالأحرى بك أن تبحث عن اتجاه آخر .. العكس والمخالفة والاختلاف والتغاير تعطى نتائج أفضل ، والعمل الأدبى هو المكان الوحيد تقريبًا الذى يعطينا التدريب على العكس والمخالفة والاختلاف والتغاير، أىْ باختصار هو المكان الذى يعلمنا التفكيك، بشرط أن نتقن الإنصات إليه. * يقودنا مفهوم العائلة إلى "السلطة الأبوية" وهى حاضرة فى أدبيات محفوظ، فهل ترى أنه كرس لها أم إنه قام بتفكيكها؟ أظن أن مشكلة "السلطة الأبوية" متعلقة بنقاد الأدب والسينمائيين الذين روجوا بقصد أو غير قصد قيمًا اجتماعية وسياسية ودينية مألوفة لنا أثناء قراءتهم لأعمال محفوظ، ولا تتعلق المشكلة بالأعمال نفسها ، فالصورة النمطية الشائعة هى "سى السيد"، وهى صورة كرست لها السينما، بينما كانت "الثلاثية" تحكى قصة تفكيك مركزية الأب، وهو ما يظهر في الجزء الأخير منها . * وهل تكرر الأمر فى أعمال أخرى لمحفوظ؟ بالطبع هناك أعمال أخرى كثيرة لمحفوظ، أبرزها مثلاً "أولاد حارتنا"؛ فالجبلاوى الأب الجبار الذي تبدأ به الرواية يتعرض عبر فصولها لعمليات هائلة من التحول فى علاقته بأبنائه وأحفاده أودت به فى النهاية إلى الموت بعد أن كان يستعصى على الموت، لكن الغريب أنه قبل موته حدثت عملية استبدال أنثوى خطير كان من شأنها إحلال المبدأ الأنثوى محل المبدأ الذكورى إحلالاً ملتبسًا غير صافٍ ، فالحكاية كلها تتلخص فى أننا لا نعرف كيف ننصت إلى النصوص وما تحتويه من عمليات تفكيكية مرعبة ، وأنا خصصت فصلاً طويلاً من كتابى "تفكيك وحروب رمزية" لذلك . * ولكن محفوظ هوجم كثيراً بسبب رواية "أولاد حارتنا" وخاصة من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر؟ يحضرنى تأويل طريف لموقف عبد الناصر من رواية "أولاد حارتنا" ، فنحن نعرف أن عبد الناصر شكل لجنة من المشايخ للبت فى أمر الروايةخاصة وأنه سياسى بارع، "رمى الكورة" فى ملعب الدين ، والحقيقة أنها كانت منذ البدء فى ملعب السياسة الذى يتضمن بداخله قيمًا أخلاقية واجتماعية ودينية هائلة تدعم كل ما هو سياسى ؛ لكن رد فعل محفوظ كان أبرع من عبد الناصر حين صرح بأنه لن ينشر الرواية فى مصر مادام المشايخ يعترضون عليها متفاديًا الشرك الذى نصبه له عبد الناصر. * ولماذا كل هذا ؟ أولاً، لأن "أولاد حارتنا" تعلمنا طرقًا متنوعة من الاحتجاج السياسى والاجتماعى والأخلاقى بدءًا من "جبل" حتى "عرفة" الذى قام بتقويض السلطة المستندة إلى الأب ، وثانيًا، لأن "عرفة" بينما كان يقوم بتقويض سلطة الأب اضطلع العرض السردى- فى اللحظة نفسها- بتفكيك مشروع التنوير الذى يرمز إليه "عرفة" ، ومن الواضح الآن أن المشكلات التى تقدمها "أولاد حارتنا" مشكلات مركبة ومزدوجة فى آنٍ معًا ، ومهمة القراءة التفكيكية هى العرض الأمين لهذه النوعية من المشكلات التى يثيرها العمل الأدبى. * فى الأيام القليلة الماضية تعرض محفوظ للسب من قبل التيار السلفى، كيف تقرأ الاتهامات السلفية لقامة بحجم محفوظ، وما الأسباب التى أدت إلى رواج مثل هذه الاتهامات؟ سأعطيك إجابة غير متوقعة مفادها أنه لو يعلم السلفيون قيمة أعمال محفوظ الأدبية لأبرموا معها اتفاقًا مشروطًا. * لماذا؟ لأن أعمال محفوظ فى حقيقة الأمر تسائل مرتكزات العالم الحديث، التي تقوم عليها فكرة الدولة الحديثة على الطريقة الأوربية بكل تجلياتها المؤسسية، وتقوم هذه الأعمال أيضًا بعمليات تفكيك ضمنية مرهفة لمشروع التنوير الأوربى الذى يتبناه العلمانيون والليبراليون، وهنا تكمن مفارقة كبرى: فمَن تُفَكِّكُهم أعمالُ محفوظ يتبنونها ويدافعون عنها، ومَن يطعنون على أعماله تُقَدِّمُ لهم هذه الأعمالُ حججًا قوية لمساءلة العلمانية والليبرالية وهم غافلون عن ذلك ونحن نذهب إلى الأعمال الأدبية باحثين بشكل مألوف عن أنفسنا فيها، ولم نتعلم أن نترك العمل الأدبى يقول كلامه الذى يريده عن نفسه ، فلو أبعدنا فكرة الله من طريقتنا فى قراءة أعمال محفوظ سنقع على كل المشكلات التى يطرحها الواقع المصرى علينا الآن ، وبناء على ذلك نبدأ فى فهم أن الزَجَّ بفكرة الله فى قراءة عمل مثل "أولاد حارتنا" لإلهاء القراء عن قضايا السلطة والعدالة ومساءلة شرعية القوة والقانون ومدى مصداقية مشروع التنوير، التى تقدمها تلك الرواية.