بين صمت النخبة وتسليم أهل الحكم تتسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وتتوارى العدالة الاجتماعية وتنسحق الملايين خضوعاً وقهراً لإسعاد القلة وإترافهم، يطلب المطحونون والشغيلة أوجاعهم لخدمة الكبار بكل ما تعنيه الكلمة من قسوة، وتترجرج الثقة فى تجربة الليبرالية الاقتصادية بنفس درجة التشكك فى تجربة الاشتراكية فى بلادنا. ومع بلادة الركود وتوقف التشغيل وانحياز كل فئة للمطالبة بمصالحها بعيداً عن مصالح الأمة بتوحش رأس المال وينفض عن ثيابه أردية المسئولية عن مجتمع غارق فى البؤس، وتتمدد غابات القبح استغلالاً واحتكاراً وظلماً، مما يدفعنا للكُفر بنظريات الاقتصاد المقولبة التى لا تراعى طبائع مُجتمعات ولا تتسق مع خصائص شعوب. لقد صدمنا المفكر الاقتصادى الراحل رمزى زكى قبل عقود عندما صك مُصطلح «الليبرالية المتوحشة» مُعبراً به عن قسوة الشركات الكُبرى ولا أخلاقية رؤوس الأموال الضخمة فى تعاملاتها الإنسانية، ومع سطوع تجربة الرأسمالية المصرية فى عهد الرئيس الأسبق حسنى مبارك وما شابها من سقطات وانحرافات أدت لاتساع كبير فى الفجوة بين مَن يملكون ومَن لا يملكون، صار وصف الرجل مُناسبا للتعبير عن التجربة، وتهاوت النظرية المُصمتة القائلة بأن الأسواق تُصحح مساراتها، وأن معدلات النمو تتساقط فى صالح الفقراء سريعاً. وبعد أربعة عقود على التجربة صار لزاماً علينا أن نُعيد قراءة مُجتمع البزنس في مصر بدون تزويق أو تشويه، طارحين التساؤل الأزلى عن العيب الحقيقى إن كان فى النظرية أم التطبيق، ومُكررين تساؤلات مهمة حول سر اختلاف تجربة القطاع الخاص فى زمن مبارك والسادات عنها قبل يوليو 1952. ولماذا لم تشهد مصر نماذج رأسمالية عظيمة لديها حرص على بناء المجتمع وتنميته مثل طلعت باشا حرب أو محمد ياسين أو فرغلى أو غيرهم؟ ولم صار الاستغلال قريناً بمجموعة «النيفوريش» - الأثرياء الجدد - المُتمددة والمتسعة والحائزة لكل شىء: المال، والسلطة، والتأثير فى الإعلام؟ إن الشاعر الجميل محمد الماغوط كتب يوماً: «الكل يركض وراء الشهرة.. المال.. الحب.. الجنس.. الرياضة.. الفروسية.. الطعام. وأنا أركض وراء الفقراء. وهذا من سوء حظى أو حظهم. وحدهم الفقراء يستيقظون مبكرين قبل الجميع حتى لا يسبقهم إلى العذاب أحد». وهذه السطور التالية تحاول استهداف الفقراء وزحزحتهم عن طريق العذاب والحرمان من خلال إعادة قراءة لقصة رأس المال فى مصر، مكاسبه، وتجاربه وخسائر المجتمع، وأسباب الاختلاف، وخفوت العدالة الاجتماعية. مُكررين أننا فى بيت الحريات نقف بقوة وانحياز مع الرأسمالية الوطنية، لكننا نقف بقوة أكبر مع العدالة الاجتماعية وضد توحش «النيو ليبرالية» الغربية. طلعت حرب أنشأ عشرات الشركات فى مجالات الصناعة والتجارة والطيران والسينما لم تنجب مصر طلعت حرب آخر. كان واحداً سابقاً ونادراً، ولم يقدر للتجربة الاستنساخ مرة أخرى. رحلته فى تمصير الاقتصاد وتوطين العمل المصرفى تستحق الإشادة باعتبارها النواة الحقيقية للرأسمالية المصرية. إن قصة بنك مصر قديمة وكانت مطروحة كفكرة فى الربع الأخير من القرن التاسع عشر. ففى عام 1879 كتب امين شميل مقالا فى جريدة التجارة دعا فيها الى ضرورة إنشاء بنك مصرى يرعى المشروعات المصرية ويشجعها ويمولها. ولاقت الفكرة تحمس عدد من الاعيان مثل عمر لطفى باشا، ومحمد سلطان باشا وحاولوا اتخاذ اجراءات فعلية لإنشاء البنك، إلا ان عدم تحمس المصريين أصابهم باليأس وبقيت الفكرة فى قلوب وأذهان اصحابها إلى أن رحلوا. وفى عام 1911 نشر طلعت حرب كتابا صغيرا بعنوان «علاج مصر الاقتصادى» تحدث فيه صراحة عن البنك الوطنى الذى لابد من انشائه. وقال الرجل «لازالت الحاجة لانشاء مصرف مصرى حقيقى يعمل بجانب المصارف الموجودة ويحثهم على المشاركة فى قطاعات التجارة والصناعة». ولاقى الكتاب والفكرة قبولاً واسعاً مع تعاظم المد الوطنى الذى صاحب الحرب العالمية الأولى وإنشاء عصبة الأمم. لقد استيقظ الضمير الوطنى ورأى أن عليه أن يحرر بلده من المستعمر ويستعيد حقوقه المسلوبة. ويذكر المؤرخ الأستاذ لمعى المطيعى ان نسبة الاموال الاجنبية العاملة فى مصر تزيد علي 90% من اجمالى الاموال. وكان الاجانب يستثمرون 62% من اموالهم فى الزراعة و6% فقط فى الصناعة و32 % فى أنشطة أخرى. ويضيف المؤرخ ان ثورة 1919 أشعلت روح الاستقلال الاقتصادى المصاحب للتحرر من نير الاستعمار. إن الثورة فى رأيه هى أول ثورة قومية بالمعنى الحديث تعبر عن انتقال الشعب المصرى من أيدلوجية الولاء للدولة العثمانية إلى القومية المصرية. ولقد كانت أول ثورة تتجمع فيها جميع عناصر القومية من عمال وفلاحين وتجار وصناع وكبار الملاك والرأسماليين. لقد أحيت الثورة فكرة الاستقلال الاقتصادى وكان على المصريين ان يدفعوا بقوة فى تحويل حلم البنك الوطنى الى حقيقة. وقد كان. فى 8 مارس 1920 أسس كلا من احمد يكن باشا، محمد طلعت حرب بك، عبدالمجيد السويفى بك، عباس دسوقى الخطيب والدكتور فؤاد سلطان شركة مساهمة مصرية تحت اسم «بنك مصر». ولقد سارع 126 مصريا فى الاكتتاب فى رأسمال البنك البالغ 80 ألف جنيه وكانت البداية. وفى 7 مايو عام 1920 اعلن رسميا قيام البنك. لقد ظلت الفكرة ثمانين عاما على الورق قبل ان تنتقل الى الواقع بعد ثورة 1919. ولقد أسهم حزب الوفد بقيادة سعد باشا زغلول فى تشجيع المصريين للانضمام للمشروع الوطنى. ويذكر لمعى المطيعى ان سعد باشا زغلول توقع فى ديسمبر عام 1921 ان يوجه الاحتلال البريطانى ضربة الى الوفد فبعث برسالة الى حمد الباسل يخبره فيها ان الرد يجب ان يكون مقاطعة البنوك والشركات الإنجليزية وتشجيع بنك مصر. وبالفعل اعتقلت سلطات الاحتلال سعد باشا فما كان من الوفد إلا ان اصدر بيانا دعا فيه الى سحب الودائع من المصارف الإنجليزية والإقبال على شراء اسهم بنك مصر. ووقع على البيان حمد الباسل، ويصا واصف، جورج خياط، مرقص حنا، علوى الجزار، مراد الشريعى، واصف غالى، وجن جنون الإنجليز وقبضوا على موقعى البيان وأصدروا حكمًا بإعدامهم. وعلى الجانب الآخر واجه طلعت حرب اتهامات عديدة بعدم الواقعية والافراط فى الأمل وتغلب على احباطات كثير من الاقتصاديين الذين كانوا يرون ان فكرة البنك لن تنجح. وكان يرد على من يتهم مصر بالفقرمن خبراء البنوك قائلاً: «قيل لنابليون عندما وضع فكرة بنك فرنسا إنه ليس فى فرنسا رجال ماليون، خبيرون بأعمال البنوك فقال لهم: هذه طائفة يجب خلقها وبالفعل تم صناعتهم وأصبحت فرنسا يضرب بها المثل فى الخبرات المالية والمصرفية». لقد بدأ بنك مصر عام 1920 برأسمال قدره 80 ألف جنيه وفى سنة 1925 ارتفع رأسمال البنك الى نصف مليون جنيه، ثم إلى مليون جنيه عام 1927. وحقق البنك أحلام المصريين فى إنشاء مشروعات تجارية وصناعية وزراعية وخدمية مصرية خالصة. ففى سنة 1922 أسس البنك مطبعة مصر برأسمال 30 ألف جنيه زاد إلى 50 الف جنيه. وفى سنة 1924 أسس شركة مصر لحليج الأقطان برأس مال قدره 30 الف جنيه زيد إلى ربع مليون جنيه. وفى العام التالى أسس شركة مصر للنقل والملاحة برأسمال قدره 40 ألف جنيه، وفى العام نفسه أسست شركة مصر للتمثيل والسينما برأس مال 15 ألف جنيه زيد الى 75 ألف جنيه وفى عام 1927 أسس البنك شركة مصر لنسج الحرير برأسمال قدره 10 ألف جنيه زيد فيما بعد الى ربع مليون جنيه. وفى نفس العام تم تأسيس شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة برأسمال 300 الف جنيه زيد الى مليون جنيه. كما تم تأسيس شركة مصر لمصايد الاسماك برأسمال 20 ألف جنيه زيد الى 75 الف جنيه. ثم أسست شركة مصر للكتان برأسمال قدره عشرة الاف جنيه زيد الى 45 ألف جنيه. وفى عام 1930 أسست شركة مصر لتصدير الأقطان برأسمال 120 الف جنيه زيد إلى 160 الف جنيه وفى 1932 أسس البنك مصر للطيران برأسمال 20 ألف جنيه زيد الى 80 الف جنيه. كما أسست شركة بيع المصنوعات برأسمال خمسة آلاف زيد إلى 80 الف جنيه. وفى عام 1934 أسست شركة مصر للتأمين برأسمال قدره 200 الف جنيه. كما أسست شركات مصر للملاحة، ومصر للسياحة، ومصر لدباغة الجلود، ومصر للغزل بكفر الدوار، ومصر للمناجم، ومصر لصناعة وتجارة الزيوت. 21 عائلة تجاوزت المليار جنيه و11 أسرة سيطرت على 30% من سوق المال أعد الباحث الألمانى ستيفن رول دراسة متخصصة للمركز الألمانى للشئون الأمنية حول رجال الاعمال فى عهد حسنى مبارك، خلصت إلى أن عددا من رجال الأعمال تمكنوا من السيطرة على قطاعات حاكمة فى الاقتصاد المصرى، وهو ما جعلهم جُزءا من المنظومة السياسية التى لها قوة تأثير على صناعة القرار. ولا شك أن ذلك يُحمّل هؤلاء جُزءا من المسئولية بما لعبوه من دور فى سقوط نظام مبارك فى 2011. وأضافت الدراسة أن تأثير نخب رجال الأعمال ظل قويًا على القرار السياسى بعد سقوط مبارك، لأن الحكومة الانتقالية استعانت ببعض التكنوقراط المرتبطين بصلات بتلك النخبة. وذكرت الدراسة أن الهوة بين الفقراء والأغنياء تتسع بشكل كبير. وعلى الرغم من تحقيق معدلات نمو عالية منذ بداية الألفية الثالثة، فإن الظروف الاجتماعية للمصريين لم تشهد تحسناً يذكر، واستمرت معدلات الفقر فى ارتفاع خاصة فى المناطق الريفية. لقد استمر مبارك على نفس سياسات الانفتاح التى بدأ الرئيس السادات تطبيقها، حتى عام 1990 عندما بدأ توغل القطاع الخاص والشركات الكبرى نحو قطاعات رئيسية فى الدولة، وفى السنوات التالية على 2004 حقق برنامج الخصخصة أضعاف ما حققه خلال العقد السابق. وأصبح القطاع الخاص يسيطر على 73% من قوة العمل، وعلى نحو 62% من الاستثمارات. وفى ظل ذلك فقد شابت تعاقدات كثيرة للدولة مع القطاع الخاص شبهات بالفساد. وقالت الدراسة إنه بنهاية عام 2010 كان واضحا أن 21 أسرة تمتلك أصولا تتجاوز ال 100 مليون دولار للواحدة، وبعض هؤلاء مثل عائلة ساويرس ومنصور تجاوزت ثرواتها رقم المليار دولار. وكان تأثير ذلك على سوق المال واضحًا للغاية ففى عام 2008 كانت هناك 11 أسرة تتحكم فى 30 % من سوق المال. ومع تعاظم دور رجال الاعمال استطاع بعضهم الوصول إلى مناصب اقتصادية قيادية مثلما حدث مع رشيد محمد رشيد رئيس شركة «يونيلفر» الذى أصبح وزيرا للتجارة والصناعة، ومحمد منصور الذى صار وزيرا للنقل. كما استحوذ رجل صناعة الصلب أحمد عز على منصب قيادى وهام فى البرلمان، وهو رئيس لجنة الخطة والموازنة. وهكذا صار لرجال الأعمال قنوات عديدة للتأثير على العملية السياسية. ومع تمدد رجال أعمال جمال مبارك فى الاقتصاد، فقد تشكلت مجموعات مناهضة تنتمى لقطاعات مختلفة كان على رأسها القوات المسلحة التى كان لها بعض المشروعات المدنية التى كانت تمثل ما بين 5 و15 % من الناتج الإجمالى المصرى. وبعد أيام قلائل من مظاهرات 2011 قام النظام المصرى باتخاذ بعض الإجراءات ضد رجال أعمال النظام أنفسهم، وقد حاولت الدائرة المحيطة بالرئيس امتصاص غضب المتظاهرين من خلال التضحية بمجموعات من رجال الاعمال، لكن ذلك لم يفلح فى إيقاف سقوط النظام. واستمر المجلس الأعلى للقوات المسلحة بعد سقوط مبارك فى التحقيق مع زهير جرانة وأحمد المغربى وأحمد عز، باتهامات عديدة بالفساد استكمالا لعملية امتصاص غضب الشارع. وكان من الواضح أن حالة الغضب تجاه نخبة رجال الأعمال، ستطول لذا لجأ بعض هؤلاء إلى تهريب أموالهم خارج مصر حتى إن الربع الأول من عام 2011 شهد خروج نحو ستة مليارات دولار. وذكرت الدراسة أن جماعة الإخوان سعت إلى السيطرة على مجتمع رجال الأعمال فيما بعد من خلال مد شبكات وصلات مع رجال أعمال النخبة والتأكيد الدائم على فتح أبواب الاستثمار، ومنح القطاع الخاص فرصا أكبر. وكان وراء التخطيط لذلك رجل الأعمال القوى خيرت الشاطر الذى حقق نجاحاً واضحاً فى كثير من القطاعات رغم تعرضه للسجن عدة مرات، وقد استخدم الشاطر كلًا من حسن مالك وعائلة الحداد فى الدخول بقوة إلى مجتمع النخبة والتحالف معهم. وقد وضع الشاطر مشروعا اسماه مشروع «النهضة» لتحقيق تقدم اقتصادى كبير من خلال سياسات تشابه سياسات مبارك لكنها اصطدمت بالواقع فيما يخص تحريم الفائدة البنكية، وعدم وضع رؤى واضحة لمواجهة الفقر. وكان واضحا أن السياسات الاقتصادية التى يتم طرحها غير واقعية وتفتقد إلى المهنية وهو ما أصاب مجتمع الاعمال بخيبة أمل. وحتى عندما تم اتخاذ قرارات بتعديل قانون الضرائب فإن الغضب الشعبى أحبطها واضطر الرئيس مرسى إلى التراجع عنها سريعا. كذلك فقد شهدت علاقات مصر بالمؤسسات الدولية وعلى رأسها صندوق النقد تخبطًا واضحًا لافتقاد رؤية الإصلاح الاقتصادى لدى حكومة الإخوان. ومع تسرع الإخوان للنفاذ والسيطرة على مجتمع الأعمال، أسست الجماعة منظمة أعمال جديدة تحت اسم «ابدأ» برئاسة حسن مالك أحد رجال أعمال الجماعة، وقد جاء إنشاء الجمعية الجديدة على غرار جمعية «الموصياد» لرجال الأعمال الأتراك. وعلى الرغم من محاولات كوادر جماعة الإخوان التحالف مع رجال الأعمال، فقد ظل كثير من المستثمرين متشككين فى سياسات وتوجهات النظام الجديد، لذا فإن كثيرين دعموا حركات مدنية مناهضة للجماعة، وهو ما دفع الرئيس الإخوانى إلى الاعلان عن معرفته ببعض هؤلاء وتوعدهم فى خطاب شهير. وفى 3 يوليو 2013 تم إقصاء محمد مرسى بعد مظاهرات شعبية غاضبة، وتم تحويل معظم قيادات جماعة الإخوان إلى القضاء بعد القبض عليهم. وكان من الواضح فشل المشروع الإخوانى فى الاستحواذ على قيادة الدولة المصرية. وقد سارعت النخبة المصرية إلى تأييد إزاحة الإخوان واستغلال علاقات قوية ربطتها بدول الخليج فى فتح قنوات للدعم والمساعدة. وكان من الجيد الاستعانة باقتصادى بارز مثل حازم الببلاوى لرئاسة الحكومة المصرية خلال الفترة الانتقالية، مع الاستعانة بخبراء متميزين مثل زياد بهاء الدين ومنير فخرى عبدالنور الذى انتقل من وزارة السياحة إلى وزارة الصناعة. ويمكن القول إن دخول رجال الأعمال فى السياسة أضر كثيراً بالبنية الاجتماعية للمصريين الذين مازالوا يواجهون شعوراً متزايداً بانعدام العدالة، ومن ثم يجب على ألمانيا والاتحاد الأوروبى دعم أى توجهات تصب فى مجال تحسين ظروف المعيشة واصلاح الاقتصاد. رواد الاستثمار قبل 23 يوليو نماذج مُبهرة لرموز الرأسمالية الوطنية قبل 23 يوليو 1952 قدمها مصطفى بيومى الكاتب والباحث الدؤوب فى سلسلة كُتيبات صدرت عن وزارة الاستثمار سنة 2006 تحت عنوان «رواد الاستثمار». السلسلة قدمت تجارب محمد فرغلى، أحمد عبود، وعبداللطيف أبورجيلة، ومحمد ياسين، وسمعان صيدناوى، وhنطون سيدهم، وفاطمة اليوسف، ومحمد فوزى، وسيد جلال وغيرهم فى مجال ريادة وقيادة الاقتصاد والتنمية عبر مشروعات ساهمت فى تطوير وتحديث المجتمع. هؤلاء كانوا نتاج العصر الليبرالى الحقيقى حيث تعددت التيارات وزهت مصر انفتاحاً واتسع مجال الفكر والعمل. فهذا محمد فرغلى مثلا الذى ينحدر من أسرة بمدينة أبوتيج بصعيد مصر، ليستقر بالقاهرة يحول تعلمه الرفيع إلى واقع عملى للدخول فى تجارة القطن إلى جوار الإنجليز والفرنسيين والبلجيك، ليخسر فى البداية نتيجة احتكار الأجانب وسيطرتهم على قطاع الأقطان. ثُم يقاوم ويدقق ويصر على مشاركة المصريين للمحتكرين الأجانب ويحقق نجاحًا مدهشًا يؤهله ليتم انتخابه وكيلاً لبورصة القطن. ويواصل الرجل نجاحه فى مجال تصدير الأقطان ليؤسس إمبراطورية كبرى تقوم على التفانى والأمانة، ويترك لنا مذكرات مختصرة حول دروس الحياة بعد أن تتعرض مشروعاته لمذبحة التأميم فى عهد عبدالناصر. لقد آلمه كما كتب فى مذكراته أن تعوض دولة عبدالناصر الأجانب بأموال سخية مقابل تأميم ممتلكاتهم، وأن يظلم المصريون ليموتوا كمداً وحسرة على ثروات ومشروعات قضوا أعمارهم فى إقامتها. وكان من المثير للسخرية أن يتم تقييم ممتلكات الرجل عند فرض الحراسة بمليونى جنيه، ويتم تعيينه مديرًا لشركته براتب شهرى قدره جنيهان ونصف الجنيه. أحمد باشا عبود نموذج آخر لرجل الأعمال العصامى الذى شق طريقه إلى القمة فى ظل حرية استثمار وانفتاح لم تشهدها مصر بعد ثورة يوليو. بدأ الرجل حياته العملية فى مجال الأشغال والمقاولات، ليعمل مع مجموعة من الأجانب المستثمرين فى مصر ثم ينتقل معهم من مجال إلى آخر، حتى اكتسب خبرات نادرة فى النقل وصناعة البواخر ثم صناعة السكر، وعندما هاجر بعض هؤلاء الأجانب من مصر باعوا ما لديهم لعبود باشا الذى فكر فى ضرورة إنشاء صرح صناعى لإنتاج السكر بمدينة أرمنت، وهناك إلى جوار المصنع بنى مستوصفًا ومدرسة ثانوية، ثم ترشح بعد ذلك نائبا للوفد بالبرلمان فى الفترة من 1942 إلى 1945. واشترى عبود باشا أسهم شركة نيو كرافت للنقل من الأجانب ليسيطر على بواخر البوستة الخديوية، وامتد نشاطه فيما بعد للأسمدة والصناعات الكيماوية، وقد انتخب عبود باشا رئيسًا للنادى الأهلى فى الفترة من 1946 إلى 1961. وفى تصور مصطفى بيومى فإن نموذج «عبود» هو النموذج الفذ والواقعى فى تاريخ الرأسمالية الوطنية، فالرجل له أخطاؤه، لكنه مثال على النجاح الاقتصادى الفردى الذى يصب لصالح المجتمع. وهو نتاج حرصه على التطوير والنمو المستمر، والابتعاد عن السياسة بأفضل قدر، وتمثلت فكرة الوطنية لديه فى بناء اقتصاد قوى مستقل ينهض على أكتاف المصريين بعد أن تحكم فيه الأجانب كثيراً. أما محمد ياسين فإليه تُنسب صناعة الزجاج فى مصر، حيث سافر الرجل الحالم بإنتاج زجاج مصرى إلى عدة دول أوروبية ليتعلم فنون التصنيع، ويطلع على خبرات الإنتاج وعاد إلى مصر ليبدأ صناعة بلورة لمبة الجاز ويُعلّم العمال أساليب الصنعة من خلال مصنع صغير فى شبرا الخيمة. والتقى «ياسين» بطلعت حرب مؤسس بنك مصر الذى أقرضه ليبدأ توسعات مدروسة تنمو معها الصناعة يومًا بعد الآخر، وتتحول إلى إمبراطورية كبرى، لتسقط بعد ذلك فى فخ التأميم وتتحول إلى شركة النصر للزجاج والبللور. ولعبداللطيف أبورجيلة تجربة فريدة فى قطاع النقل، حيث أسس شركة نقل أهلية ليُقدم خطوط أتوبيسات القاهرة التى بلغ عدد أسطولها خلال الخمسينيات أكثر من 400 أتوبيس. وكان الرجل يتخفى ليركب الأتوبيس ليتابع بنفسه كيفية تعامل عمال الشركة مع الزبائن، وعند تعرض مصر للعدوان الثلاثى سنة 1956 وضع أسطول الشركة تحت تصرف القوات المسلحة. التورط فى السياسة وراء تشوه صورة رجال الأعمال المهندس صفوان ثابت مؤسس مجموعة «جهينة» وأحد رجال الأعمال البارزين الذين عملوا فى الصناعة، وشغل رئيس جمعية مستثمرى 6 أكتوبر لعدة سنوات، فضلا عن ترأس غرفة الصناعات الغذائية، يُقدم شهادته على تجربة القطاع الخاص فى مصر خلال عصر مبارك وما بعده. سألته عن تقييمه للرأسمالية المصرية فى الظروف الراهنة ورؤيته للصورة السلبية التى يراها عليها الرأى العام فقال: إن مجتمع الأعمال مثل أى مجتمع آخر له ايجابياته وسلبياته، وبه عناصر جيدة وأخرى فاسدة. وأتصور أن الصورة السلبية السائدة ترجع إلى دخول بعض رجال الأعمال إلى السياسة فى عصور سابقة، وتورط البعض فى تصرفات تعبر عن البذخ والإنفاق السفهى فى ظل اتساع الفجوة بين الأثرياء والفقراء. وهنا فلابد من رفض فكرة التعميم واعتبار أن الحالات الفردية لبعض الانحرافات لا تُمثل إلا نفسها، خاصة أن القطاع الخاص تحمل أعباء اجتماعية كُبرى خلال عهد الرئيس السابق حسنى مبارك. وأضاف «ثابت» «إنه ليس من المنطقى الحكم على التجربة كُلها بالفشل، خاصة أن عهدى الرئيس السادات ومبارك شهدا إقامة عشرات المدن الصناعية الجديدة والمجتمعات العمرانية المستحدثة التى لم تكن موجودة من قبل، وهو ما ساهم فى توفير فرص عمل لا حصر لها، وزيادة الإنتاج والصادرات وتحسين جودة السلع والمنتجات. وضرب مثلاً بتجربة عبد الناصر فى تأميم الشركات الصناعية سنة 1960 - 1961 وقال إن التجربة أثبتت فشلها بعد عشر سنوات، حيث انهارات المصانع التى تم تأميمها نتيجة سوء الإدارة والترهل واختفت شركات كُبرى ولم تتمكن من البقاء مع السماح مرة أخرى للقطاع الخاص بالعمل فى عهد السادات. وفى تصور صفوان ثابت فإن دخول بعض رجال الأعمال فى السياسة لتحقيق مكاسب ذاتية هو أكثر ما أساء إلى تجربة القطاع الخاص، مُشيرا إلى أن دور الحكومة مطلوب فى هذا الأمر لمنع تعارض المصالح، كما أن دورها ضرورى فى علاج الفجوة الكبيرة بين الفقراء والأغنياء من خلال منظومة ضرائب ودعم تحقق فلسفة منح المستحق ومنع الغنى. وأشار إلى ضرورة التفرقة بين مصطلح رجال الأعمال بشموله واتساعه وبين مصطلح «رجال الصناعة»، وهو المعبرعن أولئك الذين يضيفون إضافات كبيرة للاقتصاد بتحمل أعباء التشغيل والتدريب والتطوير، فضلاً عن خدمة المجتمع. مؤكدا أن رجل الصناعة لا يستهدف الربح فقط وإنما ئه ومهموم دائما بالتوسع والتطوير. وفى رأيه فإن تجربة القطاع الخاص فى مصر عابها بشكل عام عدم تحقيق العدالة الاجتماعية وهى ما كانت الحكومات المتعاقبة مسئولة عنه مسئولية مباشرة فى ظل سياسات لم توفر شبكة الضمان الاجتماعى اللازمة للاقتصاد الحر. الصورة السلبية لرجال الأعمال مغلوطة.. ورجال الصناعة ليسوا وحوشاً المهندس محمد السويدى رئيس اتحاد الصناعات المصرية، يرفض وصف الرأسمالية المصرية ب«المتوحشة» ويؤكد أن أصحاب المصانع والمشروعات الكبرى لم يغلقوا أبوابهم فى ظل الأزمة الاقتصادية ويرحلوا عن مصر، وهو ما يؤكد أنهم يمثلون رأسمالية وطنية حقيقية رغم بعض المشكلات والأزمات الخاصة. ويقول ل«الوفد» إن القطاع الخاص ساهم رغم كل ما يقال فى تحمل عبء التشغيل والتوظيف لأكثر من عقدين من الزمن، وإن الرقعة الصناعية تمددت وتوسعت بشكل ملحوظ خلال تلك الفترة. وعلى حد قوله: «كيف يقال عن أصحاب مصانع ومشروعات تتعرض للاستنزاف اليومى بعد الثورة بسبب ظروف عامة ويجاهد أصحابها فى الإبقاء على العمالة واستمرار الإنتاج؟». وفى تصوره فإن الصورة السلبية التى سادت لدى بعض وسائل الإعلام عن مجتمع الأعمال صورة خاطئة، وسببها تعميم انحرافات القلة واستغلالها فى طرح صورة عامة سلبية. وأكد «السويدى» أن كثيرا من المشكلات التى تلحق بمجتمع الأعمال خطأ ترجع إلى ممارسات وانحرافات لمجموعة من الاستغلاليين المنتمين إلى القطاع غير الرسمى والذين يهتمون بمكاسبهم الشخصية بعيدا عن أى شيء. ويدافع رئيس اتحاد الصناعات عن ممارسة بعض رجال الأعمال للسياسة، مؤكداً أن الدستور لا يمنع ذلك، وأن رجال الأعمال فئة من فئات المجتمع من حقها المشاركة فى العمل العام وخدمة مصالح الاقتصاد القومى فى ظل قواعد معمول بها لمنع تعارض المصالح أو استغلال العمل السياسى. ويضيف أن هناك شخصيات صالحة وأخرى غير ذلك فى كافة فئات المجتمع من مهندسين وأطباء وإعلاميين وغيرهم، ومادامت سيادة القانون هى الحاكمة، فإنه لا مجال لسوء استغلال أو فساد.