يمكن للموت أن يحصد الأرواح وتلك هى غلبته على الإنسان.. ولكنه لا يستطيع أن يصادر تاريخ من أماتهم أو يمحى سيرتهم، وخاصة وأن كانت السيرة والتاريخ فيه من القيم، والثوابت، والأعمال، والمواقف، ما يجعل منها تبدو مثل الجبل الشامخ لا يتحرك ولا يهتز فى وجه الزمن. رغم أن العارف بالله فضيلة الشيخ أبوالوفاء الشرقاوى، رحل عن دنيانا فى مطلع الستينيات من القرن الماضى، وبكته كل طوائف صعيد مصر، فأنه لا يزال حيا بسيرته، فى القلوب تشع صوفيته وفى العقول ترسخ وطنيته ونضاله، والذى يرصد تلك السيرة يندهش من بقائها متداولة حتى الآن.. ففى المتاجر ترى صورته تزين الجدران، وفى جلسات الصوفية لا تخلو من ذكره، وفى مجالس الساسة تذكر مواقفه وثوابته، وبين الأقباط تذكر سماحته، وبين العجائز تروى سيرته ومآثره وشجاعته ووقوفه فى وجه الظلم. الشيخ الوطنى أبوالوفاء الشرقاوى ولد فى سنة 1879 فى قرية «دير شرقاوى» شمال غرب مدينة نجع حمادى بمحافظة قنا، كان فضيلته صوفيا نقيا يميل إلى العزلة محاولا ايجاد علاقة أكثر خصوصية مع خالقة تلك العلاقة الشفافة للغاية التى غاية المنى عند كل السالكين فى هذا الدرب، تلك الشفافية التى تجعلك ترى ما لا يراه الآخرون وتسمع ما لا يسمعونه وتجعل الروح هائمة فى ملكوت الله غير مفتكرة بالأمور الدنيوية لأنها قد ارتقت إلى ما هو أعذب وأنقى، خلال مسيرته فى التصوف حقق مناه وأصبحت روحه مثل نسيم الفجر متحررة ونقية وصافية للدرجة التى وصفت من مريديه أنه أصبح يبدو كالمصباح المنير فى زمن ربما كان أشد ظلمة من عتمة الليل. بالتزامن مع أيقظ ذلك الصوفى الهمم وألهب المشاعر الوطنية فبينما كانت البلاد مكبلة بإغلال الاستعمار وأصفاده القوية التى طوقت المصريين جاء العارف بالله الشيخ أبوالوفاء الشرقاوى من ظلال الحضرة النبوية حيث كان قد قرر الاقامة بالمدينة المنورة ليحرر المنطقة من كل ذلك فإذا كانت الصوفية تحرر النفوس فأنها فى ذات الوقت تدعو لمحاربة الظلم والطغيان. لعب صاحب الفضيلة دورًا بارزًا فى الكفاح ضد الاستعمار البريطانى فى صعيد مصر كان هو المرجعية لكل النفوس الوطنية الثائرة ضد الاستبداد والظلم فى نفس الوقت، وقت مطالبة الزعيم سعد زغلول بالاستقلال عن بريطانيا. الزعيم خالد الذكر سعد زغلول، وذلك المصباح الذى يضئ للأرواح الشيخ «الشرقاوى» العالم الجليل كانا يسيران فى نفس الدرب، هذا يقود الأمة فى الشمال والآخر يقودها فى الجنوب، ومعه الكثير من الوطنيين وكان لابد من اللقاء بين القطبين، زار سعد زغلول شيخنا حيث تلك الصورة الشهيرة على ظاهرة «نوبية» العائمة النيلية التى حملت سعد ورفاقه إلى عواصم الصعيد لجمع التوكيلات من المصريين المطالبة بالاستقلال وكان اللقاء حارا بين محاربين من طراز فريد تبنيا قضية مصر للمصريين قال «سعد» «الحق فوق القوة والأمة فوق الحكومة» وأنشد العارف بالله «إذا جاء نصر الله والفتح يا مصر - فما مثل هذا الفتح فتح ولا نصر». جاهر «العارف بالله» بدعوته الوطنية نحو تحرير رغم عنف وان الموالين للوجود البريطانى فى مصر وأخذ يشد القصائد الجليلة ويحث المصريين على مجابهة المستعمر، وخاض حروبا ضد البدع التى كانت متفشية فى عصره والتى تخلط الدين بالضلال ودعا علماء المسلمين اتخاذ موقف تجاه مجتمعاتهم التى يعيشون فيها. أنجب الصعيد كثير من العلماء ولكن يبقى الشيخ «أبوالوفاء الشرقاوى» هو علامة فارقة فى تاريخ الصعيد ليس كقيمة روحية صوفية فقط، بل كمناضل وطنى تصدى بكل جرأة للقوى الاستعمارية. ورغم رحيله فأنه بيننا.. فالساحة الشرقاوية الرحبة تحتضن الزائرين والمصباح الذى يضىء للأرواح لا يزال يشع نورا للطالبين.