أجهشت فى بكاء حار اهتز له جسدها بأكمله، فحاول هو تهدئتها مربتا على كتفها فى رفق قائلًا: - إنه قدر الله ومشيئته يا حبيبتى.. فلا تعذبى نفسك. رفعت إليه عينين ادمتهما الدموع وحاولت أن تلملم هدوءها إلا انها شردت ببصرها بعيدا وتمتمت: - كان لدى أمل فى أن أصبح أمًا ذات يوم، خمس سنوات كاملة مرت على زواجنا ورغم إصرار الطبيب على عدم قدرتى على الإنجاب، إلا أننى كنت أمنى النفس أن معجزة قد تحدث بين يوم وآخر وأصبح أمًا. أشاح بوجهه عنها ليخفى تأثرا بدا على ملامحه ثم ازدرد لعابًا وهميًا، وعاد لينظر إليها قائلا فى بطء: - «ملك»، انا لم اشك يوما مما نحن فيه.. ولست أفكر فى هذا الأمر قط. - لكننى ألاحظ غضبك الدائم وشرودك طوال الوقت.. أنا أشعر بك وأحس بتقصيرى تجاهك وعجزى عن منحك الطفل الذى تتمنى. قالتها وهى تقاوم دموعا أخرى تكاد تنهمر من مقلتيها، بينما أطرق هو قائلا: - هو نصيبنا.. نصيبنا. تنهدت فى حزن، ثم ترددت قليلا عن قول شىء ما حتى إذا حسمت أمرها قالت وهى تحاول أن تتمالك نفسها وتتظاهر بالهدوء: - «جمال»... فلتتزوج..
- ماذا تقولين يا «ملك»، هل جننت؟ صاحت بها سميرة فى ذهول، فأشاحت «ملك» بوجهها بعيدا لتتجنب نظرات صديقتها الذاهلة، واغتصبت ابتسامة لم تستطع أن تخفى وراءها قهرا ملأ كيانها قبل عينيها، وقالت وفى حلقها غصة: - «سميرة» انت صديقتى الأقرب إلى قلبى، والوحيدة التى يمكننى أن أطلب منها أن تقاسمنى زوجى، وأنا متأكدة من أنها لن تحرمنى منه ولن تجعله يهجرنى إذا ما رزقهما الله بطفل، مثلما قد تفعل أخرى.. - «ملك» مستحيل أن أفعل ...... قاطعتها وهى تمسك بذراعها قائلة فى توسل: - أرجوك لا تخذلينى، فإننى أحس بالذنب تجاه «جمال» أننى لم أمنحه طفلا وفى الوقت نفسه أخشى إن تزوج هو يوما - وهو ما سوف يحدث حتما- أن تنسيه تلك الجديدة زوجته الأولى فاجد نفسى وحيدة.. أما أنت فحبيبتى ولن تفعلى ذلك بى ابدا. ثم استطردت فى استجداء أكثر: - وافقى .. أرجوك.
- لماذا تعاملنا بهذا الشكل، أتظننا خادمتين لديك؟ صرخت بها «سميرة» ثائرة فى وجه «جمال»، بينما لكزتها «ملك» ونظرت إليها فى لوم، فصاح هو فيهما: - كيف تريدين ان أعاملكما إذن.. ألا تخجلان من نفسيكما.. ألا يكفى انى أتحملكما رغم أنكما لم تستطيعا أن تأتيا لى بطفل؟ أطرقت «ملك» فى خجل، بينما قطبت «سميرة» ما بين حاجبيها فى غضب وهتفت: - وهل تعاقبنا على قدر الله بنا؟ طوح يده فى الهواء فى تذمر، وغمغم بكلمات مبهمة وانطلق مغادرا المكان، تاركا قلبين كسيرين عقد أحدهما العزم على أمر ما.
هزت «ملك» كتفيها فى حيرة وتساءلت مندهشة: - ولماذا تريدين ان نفعل ذلك يا «سميرة»، فإن أمرنا محسوم ولا أرى داعيا لذلك. أجابت وكأنها تحادث نفسها: - بل أشك كثيرا فى هذا الأمر، وأرى أن تلك الخطوة ضرورية. ثم استدركت وقد أفاقت من شرودها: _ ثم إننا لن نخسر شيئا يا «ملك» على أية حال. اومأت «ملك» فى استسلام مغمغمة: - نعم.. لن نخسر شيئا.
انهارت «ملك» على أقرب كرسى، وأخفت وجهها بين كفيها وهى تردد: - لماذا.. لماذا؟ بينما ظلت «سميرة» تذرع الحجرة جيئة وذهابا، وقد اعتراها غضب شديد ممسكة ببعض الأوراق، وصرخت وهى ترفع يدها بتلك الأوراق: - الحقير.. كيف استطاع أن يوهمك خمس سنوات كاملة ويوهمنى سنة بأكملها بأننا نحن العاجزتان عن الإنجاب.. أى جبروت تملكه. قاطعتها «ملك» منتحبة: - كيف هانت عليه سنوات عمرى، وهى تضيع أمام عينيه، كيف تركنى أضحى بسعادتى وارتضى بالقهر وازوجه بيدى، بل كيف تركنى اتعذب حزنا على نفسى، وأنا أظن انى العاجزة وأرى حلمى بالإنجاب يتبدد أمام عينى.. ألم يستيقظ ضميره لحظة. ازداد صياح «سميرة»: - ذلك الخنزير، لقد كان يهيننا ويذيقنا من العذاب كؤوسا وكلما تذمرنا عيرنا بعجزنا. ثم استطردت وهى تمسك برأسها بكلتا يديها وكأنها تمنعها من أن تسقط: - أنا أكاد أجن... كيف أتقن الأمر لتلك الدرجة.... قاطعها دخول «جمال» فجأة فانتفضت «ملك» واقفة فى تحفز، وأسرعت «سميرة» تصرخ فى وجهه: - لماذا فعلت بنا ذلك... أكل هذا كى لا يفتضح أمرك ويعرف الجميع أنك أنت العاجز عن الإنجاب؟ اهتزت أهدابه فى اضطراب ملحوظ، لكنه حاول أن يخفى توتره إلا ان صوته حمل كل توتره وهو يقول: - هل تهزين.. عن أى شىء تتحدثين؟ طوحت بما تحمل يدها من أوراق هاتفه: - لقد أجرينا تحليلات وفحوصات وجاءت كلها لتثبت قدرتى التامة أنا و«ملك» على الإنجاب. حاول أن يختطف الأوراق من يدها صارخًا: - أى فحوصات... كيف تفعلان ذلك دون علمى؟ أبعدت الأوراق عنه بعنف واستطردت: - ذلك الطبيب الذى اصررت على أن نجرى فحوصاتنا لديه ورفضت رفضا باتا أى طبيب غيره... هو صديقك أليس كذلك؟ لم يجب، وإنما ازدادت ثورته، فقاطعت هياجه «ملك» صائحة: - نعم.. هو صديقه. ألجمته الصدمة ونظر إليها مقطبا ، فأردفت: - لم يساورنى الشك لحظة فى أن الأمر مدبر بينكما، حتى بعدما أصررت على أن تصطحب «سميرة» إليه أيضا وأقر بنفس العجز لها، لم أشك، لكنها شكت عندما رفضت أن تعيد هى فحوصاتها لدى طبيب أكثر مهارة وشهرة منه.. صمتت وهى تسدد إلى عينيه نظرات ملؤها الاحتقار والتقزز، فلم يستطع تحملها، فتملكه هياج شديد، واستطاع أن ينزع الأوراق من بين يدى «سميرة» هذه المرة وأسرع بتمزيقها وسط نظراتهما الساخرة وهو يصرخ: - أنا لا اعترف بأى فحوصات أخرى.. انتما عاقرتان وستظلان، أما أنا.. فأنا رجل كامل.. نعم كامل و.... وسوف أتزوج بثالثة لأقهركما أكثر، ولن تنالا منى مليما، بل سأهجركما واترككما معلقتين، و.. ثم برقت عيناه على نحو مخيف وهو يردد مغادرا المكان وسط ذهولهما: - عاقرتان.. وستظلان.. وأنا سليم.. سليم. ثم خرج صافعا الباب خلفه بعنف، فنظرت «ملك» إلى «سميرة» فى قلق، فربتت الأخيرة على يدها مطمئنة وهى تقول بحسم: - لا تخشى شيئا.. فليتزوج ويهجرنا، ونحن الاثنتين سنرفع عليه دعوى طلاق وعندئذ سوف يفتضح أمره أمام الجميع.. ثم عادت لتربت على يديها فى هدوء.